هادي بن علي
05-26-2013, 05:29 PM
التدابير الزجرية والوقاية في التشريع الإسلامي وتطبيقها للعلامة أسماعيل الأنصاري
أوضحت الشريعة الإسلامية المحرمات ومنعت منها منعا يثير في النفوس شدة الخوف من الإقدام عليها ، واتخذت للزجر عنها وللوقاية من أضرارها التدابير التالية :
(1) سد باب الوسائل والذرائع المفضية إلى ارتكاب تلك المحرمات بتحريم تلك الوسائل والنهي عنها ، فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرم تلك الطرق والوسائل ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له ومنعا أن يقرب حماه ، إذ لو أباح الوسائل والذرائع المفضية إلى المحرم كان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به ، وذلك يأباه علمه تعالى وحكمته كل الإباء ، كما أوضحه الإمام ابن القيم في ( ج3 "إعلام الموقعين" ص 13 ط مكتبة الكليات الأزهرية ) وأتبع لك قوله : " بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك ؛ فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه عد متناقضا ، وحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده ، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه ، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة ؟ التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال .
ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها " وذكر ابن القيم في صفحة 159 أن سد الذرائع
هو أحد أرباع التكليف ، وأوضح ذلك بقوله رحمه الله : " فإنه - أي التكليف - أمر ونهي ، والأمر نوعان : أحدهما مقصود لنفسه ، والثاني وسيلة إلى المقصود . والنهي نوعان : أحدهما ما يكون النهي عنه مفسدة في نفسه ، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين " . وقد ذكر شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في "إقامة الدليل على إبطال التحليل ج / 3 من الفتاوى المصرية ، ص / 140 " أن شواهد قاعدة سد باب الذرائع المفضية إلى المحرمات أكثر من أن تحصر ، وسرد منها ثلاثين شاهدا ، قال صفحة 145 بعد سردها : " لم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه ، أو منصوص عليه ، أو مأثور عن الصدر الأول " . وذكر تلميذه العلامة شمس الدين ابن القيم في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" منها تسعة وتسعين شاهدا منها نهي الشارع عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة ، وإن ظلموا أو جاروا ما أقاموا الصلاة ؛ سدا لذريعة الفساد والشر الكثير الذي يحصل بقتالهم ، وذكر أنه قد حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف أضعاف ما هم عليه . قال ابن القيم " والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن " .
2) إيجاب الكفارة على مرتكب ما يوجبها قال ابن القيم في ( الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ، ص 153 ط مطبعة أمين عبد الرحمن ، شارع محمد علي بمصر ) : " شرع - سبحانه وتعالى - الكفارات في ثلاثة أنواع : أحدها ما كان مباح الأصل ، ثم عرض تحريمه فباشره في الحالة التي عرض فيها التحريم كالوطء في الإحرام والصيام ، وطرده الوطء في الحيض والنفاس بخلاف الوطء في الدبر . ولهذا كان إلحاق بعض الفقهاء له بالوطء في الحيض لا يصح ؛ فإنه لا يباح في وقت دون وقت فهو بمنزلة التلوط وشرب المسكر .
النوع الثاني : ما عقد لله من نذر أو ما لله من يمين أو حرمة الله ، ثم أراد حله فشرع الله سبحانه حله بالكفارة وسماها تحلة ، وليست هذه الكفارة ماحية لهتك حرمة الإثم بالحنث كما ظنه بعض الفقهاء ؛
فإن الحنث قد يكون واجبا ، وقد يكون مستحبا ، وقد يكون مباحا ، وإنما الكفارة حل لما عقده .
النوع الثالث : ما تكون فيه جابرة لما فات ككفارة قتل الخطأ وإن لم يكن هناك إثم وكفارة قتل صيد الخطأ ، فإن ذلك من باب الجوابر ، والنوع الأول من باب الزواجر ، والنوع الوسط من باب التحلة لما صنعه العقد " . ذكر ابن القيم هذا ثم قال : " لا يجتمع الحد والكفارة في معصية بل كل معصية فيها حد فلا كفارة فيها ، وما فيه كفارة فلا حد عليه " . وذكر من النوع الذي تجب فيه الكفارة الظهار .
) عقوبات مقدرة من الشارع على بعض الجرائم كالجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال ، كالقتل والجراح والقذف والسرقة ، وتعرف هذه العقوبات باسم الحد ، قال الإمام ابن القيم في كلامه على عقوبات تلك الجنايات في ( إعلام الموقعين ج 2 ص 114 ) : " أحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام ، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع ، فلم يشرع في الكذب قطع اللسان والقتل ولا في الزنا الخصاء ولا في السرقة إعدام النفس ، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله ؛ لتزول النوائب ، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان ، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه فلا يطمع في استلاب غيره حقه ، قال : ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة ، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته ، كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك . ومن المعلوم أن النظرة المحرمة لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة ، ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم ، فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات ، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من
الجناية جنسا ووصفا وقدرا لذهبت بهم الآراء كل مذهب وتشعبت بهم الطرق كل مشعب ولعظم الاختلاف واشتد الخطب ، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك وأزال عنهم كلفته وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعا وقدرا ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النكال ، ثم بلغ من سعة رحمته وجوده أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه ، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة ، فرحمهم بهذه العقوبات أنواعا من الرحمة في الدنيا والآخرة ، وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أحوال : قتل ، وقطع ، وجلد ، ونفي ، وتغريم مال وتعزير " .
ثم بين ابن القيم حكمة كل عقوبة من تلك العقوبات التي رتبتها الشريعة على كل جناية من تلك الجنايات ،
وذكر أن الجناية على الدين والطعن فيه والارتداد عنه من الجرائم التي توجب القتل ، وقال فيها : " هذه الجناية أولى بالقتل وكف عداون الجاني عليه من كل عقوبة إذ بقاؤه بين أظهر عباده مفسدة لهم ، ولا خير يرجى في بقائه ولا مصلحة ، فإذا حبس شره وأمسك لسانه وكف أذاه والتزم الذل والصغار وجريان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن في بقائه بين أظهر المسلمين ضرر عليهم ، والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين " .
كما استوفى ابن القيم الكلام على جريمة الزنا ، وبيان الحكمة فيما رتبه الشرع عليها من العقاب .
ومما له صلة بوجوه الزجر الرادعة عنه ما ذكره العلامة القاضي برهان الدين إبراهيم بن علي بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون المالكي في كتابه ( تبصرة الحكام بمناهج الأقضية وأصول الأحكام " ج 2 بهامش فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك لأبي عبد الله محمد عليش ص 121 - 123 ) ذكر أن لما شرع من الأحكام للسياسة والزجر ستة أصناف وبينها بقوله :
1 - الصنف الأول شرع لصيانة الوجود كالقصاص في النفوس والأطراف ، فمن ذلك قوله تعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . معناه أن القصاص الذي كتبته عليكم إذا أقيم ازدجر الناس عن القتل ، قال ابن الفَرَس في أحكام القرآن : في هذه الآية الكريمة تنبيه على الحكمة في شرع القصاص وإبانة الغرض منه . وقال قتادة : جعل الله تعالى هذا القصاص حياة ونكالا وعظة لأهل الجهل ، فكم رجل هَمَّ بداهية لولا مخافة القصاص لوقع بها ، ولكن القصاص حجز بعضهم عن بعض ، وخص أولي الألباب وإن كان الخطاب عاما ؛ لأنهم أصحاب العقول الذين ينظرون في العواقب ، ثم قال : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني الدماء . وأما القصاص في الأطراف فقوله تعالى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ .
الآية ؛ ليزدجر الناس عن الإقدام على شيء من ذلك .
ومن ذلك قتال الخوارج والمحاربين والكفار ، قال الله تعالى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ . الآية ، وفي قتال الكفار زيادة معنى ، وهو إعلاء كلمة الحق ومحو الشرك به .
2 - الصنف الثاني من الأحكام شرع لحفظ الأنساب كحد الزنا قال الله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ . وبينت السنة حكم التغريب وحد الزاني الثيب .
3 - الصنف الثالث من الأحكام شرع لصيانة الأعراض ؛ لأن صيانتها من أكبر الأغراض ، قال الله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً . وألحق الشرع بذلك التعزير على السب والأذى بالقول على حسب اجتهاد الإمام في ذلك .
4 - الصنف الرابع من الأحكام شرع لصيانة الأموال كحد السرقة وحد الحرابة ، قال الله تعالى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . ويلتحق بذلك تعزير الغصاب ونحوهم .
5 - الصنف الخامس من الأحكام شرع لحفظ العقل كحد الخمر ، وقد نهى الله عنه في قوله تعالى : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله :
فَاجْتَنِبُوهُ ثم قال تعالى : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ . ووردت السنة بحد الشارب .
- الصنف السادس من الأحكام شرع للردع والتعزير نحو قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ أي : ليذوق جزاء فعله ، وقوله تعالى : الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إلى قوله : وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ثم شرع كفارة ذلك في قوله تعالى : وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ إلى قوله : وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وقوله تعالى : : وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ الآية ، وقصة الثلاثة الذين خلفوا ، وغير ذلك مما ورد به القرآن العظيم وأطال ابن فرحون بعد هذا في إيراد ما ورد في باب الردع والتعزير من السنة وما جاء فيه عن الصحابة رضي الله عنهم .
ذكر ابن فرحون جميع ذلك في فصل عقده للدلالة على مشروعية السياسة العادلة من الكتاب والسنة بعد أن قال : " السياسة نوعان : سياسة ظالمة فالشرع يحرمها ، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم ، وتدفع كثيرا من المظالم ، وتردع أهل الفساد ، ويتوصل بها إلى المقاصد الشرعية ، فالشريعة توجب المصير إليها والاعتماد في إظهار الحق عليها ، وهي باب واسع تضل فيه الأفهام وتزل فيه الأقدام ، وإهماله يضيع الحقوق ويعطل الحدود ويجرئ أهل الفساد ويعين أهل العناد ، والتوسع فيه يفتح أبواب المظالم الشنيعة ويوجب
سفك الدماء وأخذ الأموال بغير الشريعة ، ولهذا سلكت فيه طائفة مسلك التفريط المذموم فقطعوا النظر عن هذا الباب إلا فيما قَلَّ ، ظنا منهم أن تعاطي ذلك مخالفة للقواعد الشرعية فسدوا من طرق الحق سبيلا واضحة ، وعدلوا إلى طريق للعناد فاضحة ؛ لأن في إنكار السياسة الشرعية والنصوص الشريفة تغليطا للخلفاء الراشدين ، وطائفة سلكت في هذا الباب مسلك الإفراط فتعدوا حدود الله تعالى ، وخرجوا عن قانون الشرع إلى أنواع من الظلم والبدع والسياسة - أي غير الشرعية - وتوهموا أن السياسة الشرعية قاصرة عن سياسة الخلق ومصلحة الأمة ، وهو جهل وغلط فاحش ، فقد قال عز من قائل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فدخل في هذا جميع مصالح العباد الدينية والدنيوية على وجه الكمال ، وقال صلى الله عليه وسلم : تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ؛ كتاب الله وسنتي . وطائفة توسطت وسلكت فيه مسلك الحق وجمعوا بين السياسة والشرع فقمعوا الباطل ودحضوه ، ونصبوا الشرع ونصروه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " . اهـ .
مجلة البحوث الإسلامية العدد الثالث والعشرون>الإصدار : من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1408هـ 1409هـ
أوضحت الشريعة الإسلامية المحرمات ومنعت منها منعا يثير في النفوس شدة الخوف من الإقدام عليها ، واتخذت للزجر عنها وللوقاية من أضرارها التدابير التالية :
(1) سد باب الوسائل والذرائع المفضية إلى ارتكاب تلك المحرمات بتحريم تلك الوسائل والنهي عنها ، فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرم تلك الطرق والوسائل ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له ومنعا أن يقرب حماه ، إذ لو أباح الوسائل والذرائع المفضية إلى المحرم كان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به ، وذلك يأباه علمه تعالى وحكمته كل الإباء ، كما أوضحه الإمام ابن القيم في ( ج3 "إعلام الموقعين" ص 13 ط مكتبة الكليات الأزهرية ) وأتبع لك قوله : " بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك ؛ فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه عد متناقضا ، وحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده ، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه ، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة ؟ التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال .
ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها " وذكر ابن القيم في صفحة 159 أن سد الذرائع
هو أحد أرباع التكليف ، وأوضح ذلك بقوله رحمه الله : " فإنه - أي التكليف - أمر ونهي ، والأمر نوعان : أحدهما مقصود لنفسه ، والثاني وسيلة إلى المقصود . والنهي نوعان : أحدهما ما يكون النهي عنه مفسدة في نفسه ، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين " . وقد ذكر شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في "إقامة الدليل على إبطال التحليل ج / 3 من الفتاوى المصرية ، ص / 140 " أن شواهد قاعدة سد باب الذرائع المفضية إلى المحرمات أكثر من أن تحصر ، وسرد منها ثلاثين شاهدا ، قال صفحة 145 بعد سردها : " لم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه ، أو منصوص عليه ، أو مأثور عن الصدر الأول " . وذكر تلميذه العلامة شمس الدين ابن القيم في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" منها تسعة وتسعين شاهدا منها نهي الشارع عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة ، وإن ظلموا أو جاروا ما أقاموا الصلاة ؛ سدا لذريعة الفساد والشر الكثير الذي يحصل بقتالهم ، وذكر أنه قد حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف أضعاف ما هم عليه . قال ابن القيم " والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن " .
2) إيجاب الكفارة على مرتكب ما يوجبها قال ابن القيم في ( الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ، ص 153 ط مطبعة أمين عبد الرحمن ، شارع محمد علي بمصر ) : " شرع - سبحانه وتعالى - الكفارات في ثلاثة أنواع : أحدها ما كان مباح الأصل ، ثم عرض تحريمه فباشره في الحالة التي عرض فيها التحريم كالوطء في الإحرام والصيام ، وطرده الوطء في الحيض والنفاس بخلاف الوطء في الدبر . ولهذا كان إلحاق بعض الفقهاء له بالوطء في الحيض لا يصح ؛ فإنه لا يباح في وقت دون وقت فهو بمنزلة التلوط وشرب المسكر .
النوع الثاني : ما عقد لله من نذر أو ما لله من يمين أو حرمة الله ، ثم أراد حله فشرع الله سبحانه حله بالكفارة وسماها تحلة ، وليست هذه الكفارة ماحية لهتك حرمة الإثم بالحنث كما ظنه بعض الفقهاء ؛
فإن الحنث قد يكون واجبا ، وقد يكون مستحبا ، وقد يكون مباحا ، وإنما الكفارة حل لما عقده .
النوع الثالث : ما تكون فيه جابرة لما فات ككفارة قتل الخطأ وإن لم يكن هناك إثم وكفارة قتل صيد الخطأ ، فإن ذلك من باب الجوابر ، والنوع الأول من باب الزواجر ، والنوع الوسط من باب التحلة لما صنعه العقد " . ذكر ابن القيم هذا ثم قال : " لا يجتمع الحد والكفارة في معصية بل كل معصية فيها حد فلا كفارة فيها ، وما فيه كفارة فلا حد عليه " . وذكر من النوع الذي تجب فيه الكفارة الظهار .
) عقوبات مقدرة من الشارع على بعض الجرائم كالجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال ، كالقتل والجراح والقذف والسرقة ، وتعرف هذه العقوبات باسم الحد ، قال الإمام ابن القيم في كلامه على عقوبات تلك الجنايات في ( إعلام الموقعين ج 2 ص 114 ) : " أحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام ، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع ، فلم يشرع في الكذب قطع اللسان والقتل ولا في الزنا الخصاء ولا في السرقة إعدام النفس ، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله ؛ لتزول النوائب ، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان ، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه فلا يطمع في استلاب غيره حقه ، قال : ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة ، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته ، كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك . ومن المعلوم أن النظرة المحرمة لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة ، ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم ، فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات ، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من
الجناية جنسا ووصفا وقدرا لذهبت بهم الآراء كل مذهب وتشعبت بهم الطرق كل مشعب ولعظم الاختلاف واشتد الخطب ، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك وأزال عنهم كلفته وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعا وقدرا ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النكال ، ثم بلغ من سعة رحمته وجوده أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه ، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة ، فرحمهم بهذه العقوبات أنواعا من الرحمة في الدنيا والآخرة ، وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أحوال : قتل ، وقطع ، وجلد ، ونفي ، وتغريم مال وتعزير " .
ثم بين ابن القيم حكمة كل عقوبة من تلك العقوبات التي رتبتها الشريعة على كل جناية من تلك الجنايات ،
وذكر أن الجناية على الدين والطعن فيه والارتداد عنه من الجرائم التي توجب القتل ، وقال فيها : " هذه الجناية أولى بالقتل وكف عداون الجاني عليه من كل عقوبة إذ بقاؤه بين أظهر عباده مفسدة لهم ، ولا خير يرجى في بقائه ولا مصلحة ، فإذا حبس شره وأمسك لسانه وكف أذاه والتزم الذل والصغار وجريان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن في بقائه بين أظهر المسلمين ضرر عليهم ، والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين " .
كما استوفى ابن القيم الكلام على جريمة الزنا ، وبيان الحكمة فيما رتبه الشرع عليها من العقاب .
ومما له صلة بوجوه الزجر الرادعة عنه ما ذكره العلامة القاضي برهان الدين إبراهيم بن علي بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون المالكي في كتابه ( تبصرة الحكام بمناهج الأقضية وأصول الأحكام " ج 2 بهامش فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك لأبي عبد الله محمد عليش ص 121 - 123 ) ذكر أن لما شرع من الأحكام للسياسة والزجر ستة أصناف وبينها بقوله :
1 - الصنف الأول شرع لصيانة الوجود كالقصاص في النفوس والأطراف ، فمن ذلك قوله تعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . معناه أن القصاص الذي كتبته عليكم إذا أقيم ازدجر الناس عن القتل ، قال ابن الفَرَس في أحكام القرآن : في هذه الآية الكريمة تنبيه على الحكمة في شرع القصاص وإبانة الغرض منه . وقال قتادة : جعل الله تعالى هذا القصاص حياة ونكالا وعظة لأهل الجهل ، فكم رجل هَمَّ بداهية لولا مخافة القصاص لوقع بها ، ولكن القصاص حجز بعضهم عن بعض ، وخص أولي الألباب وإن كان الخطاب عاما ؛ لأنهم أصحاب العقول الذين ينظرون في العواقب ، ثم قال : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني الدماء . وأما القصاص في الأطراف فقوله تعالى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ .
الآية ؛ ليزدجر الناس عن الإقدام على شيء من ذلك .
ومن ذلك قتال الخوارج والمحاربين والكفار ، قال الله تعالى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ . الآية ، وفي قتال الكفار زيادة معنى ، وهو إعلاء كلمة الحق ومحو الشرك به .
2 - الصنف الثاني من الأحكام شرع لحفظ الأنساب كحد الزنا قال الله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ . وبينت السنة حكم التغريب وحد الزاني الثيب .
3 - الصنف الثالث من الأحكام شرع لصيانة الأعراض ؛ لأن صيانتها من أكبر الأغراض ، قال الله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً . وألحق الشرع بذلك التعزير على السب والأذى بالقول على حسب اجتهاد الإمام في ذلك .
4 - الصنف الرابع من الأحكام شرع لصيانة الأموال كحد السرقة وحد الحرابة ، قال الله تعالى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . ويلتحق بذلك تعزير الغصاب ونحوهم .
5 - الصنف الخامس من الأحكام شرع لحفظ العقل كحد الخمر ، وقد نهى الله عنه في قوله تعالى : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله :
فَاجْتَنِبُوهُ ثم قال تعالى : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ . ووردت السنة بحد الشارب .
- الصنف السادس من الأحكام شرع للردع والتعزير نحو قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ أي : ليذوق جزاء فعله ، وقوله تعالى : الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إلى قوله : وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ثم شرع كفارة ذلك في قوله تعالى : وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ إلى قوله : وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وقوله تعالى : : وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ الآية ، وقصة الثلاثة الذين خلفوا ، وغير ذلك مما ورد به القرآن العظيم وأطال ابن فرحون بعد هذا في إيراد ما ورد في باب الردع والتعزير من السنة وما جاء فيه عن الصحابة رضي الله عنهم .
ذكر ابن فرحون جميع ذلك في فصل عقده للدلالة على مشروعية السياسة العادلة من الكتاب والسنة بعد أن قال : " السياسة نوعان : سياسة ظالمة فالشرع يحرمها ، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم ، وتدفع كثيرا من المظالم ، وتردع أهل الفساد ، ويتوصل بها إلى المقاصد الشرعية ، فالشريعة توجب المصير إليها والاعتماد في إظهار الحق عليها ، وهي باب واسع تضل فيه الأفهام وتزل فيه الأقدام ، وإهماله يضيع الحقوق ويعطل الحدود ويجرئ أهل الفساد ويعين أهل العناد ، والتوسع فيه يفتح أبواب المظالم الشنيعة ويوجب
سفك الدماء وأخذ الأموال بغير الشريعة ، ولهذا سلكت فيه طائفة مسلك التفريط المذموم فقطعوا النظر عن هذا الباب إلا فيما قَلَّ ، ظنا منهم أن تعاطي ذلك مخالفة للقواعد الشرعية فسدوا من طرق الحق سبيلا واضحة ، وعدلوا إلى طريق للعناد فاضحة ؛ لأن في إنكار السياسة الشرعية والنصوص الشريفة تغليطا للخلفاء الراشدين ، وطائفة سلكت في هذا الباب مسلك الإفراط فتعدوا حدود الله تعالى ، وخرجوا عن قانون الشرع إلى أنواع من الظلم والبدع والسياسة - أي غير الشرعية - وتوهموا أن السياسة الشرعية قاصرة عن سياسة الخلق ومصلحة الأمة ، وهو جهل وغلط فاحش ، فقد قال عز من قائل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فدخل في هذا جميع مصالح العباد الدينية والدنيوية على وجه الكمال ، وقال صلى الله عليه وسلم : تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ؛ كتاب الله وسنتي . وطائفة توسطت وسلكت فيه مسلك الحق وجمعوا بين السياسة والشرع فقمعوا الباطل ودحضوه ، ونصبوا الشرع ونصروه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " . اهـ .
مجلة البحوث الإسلامية العدد الثالث والعشرون>الإصدار : من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1408هـ 1409هـ