ماجد الدوسري
11-27-2012, 05:46 PM
جمع الجيوش و الدساكر على أهل الإرجاء المعاصر
((فَالْأَعْمَالُ بِالْجَوَارِحِ تَصْدِيقٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقِ الْإِيمَانَ بِعَمَلِهِ بِجَوَارِحِهِ مِثْلِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَأَشْبَاهٍ لِهَذِهِ، وَمَنْ رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَلَمْ تَنْفَعْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْقَوْلُ، وَكَانَ لِلْعَمَلِ تَكْذِيبًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، وَكَانَ الْعِلْمُ بِمَا ذَكَرْنَا تَصْدِيقًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، فَاعْلَمْ ذَلِكَ هَذَا مَذْهَبُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَهُوَ مُرْجِئٌ خَبِيثٌ، احْذَرْهُ عَلَى دِينِكَ)) أ.هـ الأربعين حديثا للإمام الآجري ط أضواء السلف
(( فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ وَأَحْكَامِهِ وَفَرَائِضِهِ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ , وَأَنَّ التَّارِكَ لَهَا وَالْمُتَثَاقِلَ عَنْهَا مُؤْمِنٌ , فَقَدَ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ , وَخَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ , وَنَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ , وَنَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ )) أ.هـ
(( وَمَنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَقَالَهُ بِلِسَانِهِ , ثُمَّ تَرَكَهُ تَهَاوُنًا وَمُجُونًا أَوْ مُعْتَقِدًا لَرَأْيِ الْمُرْجِئَةِ وَمُتَّبِعًا لِمَذَاهِبِهِمْ , فَهُوَ تَارِكُ الْإِيمَانِ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِنْهُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ وَهُوَ فِي جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ نَافَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِوَصْفِهِمْ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ , وَإِنَّهُمْ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، نَسْتَجِيرُ بِاللَّهِ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُرْجِئَةِ الضَّالَّةِ )) أ.هـ الإبانة الكبرى للإمام ابن بطة العكبري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و لا عدوان إلا على الظالمين و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي فرض الإيمان على القلب و اللسان و الجوارح مجتمعين، و الصلاة و السلام على سيد الأنبياء و المرسلين نبينا محمد و على آله و صحبه و التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد : فقد يسر الله جل و علا في المقال السابق نقض الشبهات التي أثيرت حول إجماع صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم في كفر تارك الصلاة و أتينا على بنيانها من القواعد و لم نسمع للمخالف ركزا و همسا،و قد كان الغرض من وراء التشكيك في هذا الإجماع التوصل إلى تصحيح الخلاف في ما أجمع عليه السلف من (( أَنَّ الَّذِيَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، ... ))
و (( أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِيمَانٌ بِاللِّسَانِ، وَحَتَّى يَكُونَ مَعَهُ نُطْقٌ، وَلَا تُجْزِئُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَالنُّطْقِ بِاللِّسَانِ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ عَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ ))
إذ :((فَالْأَعْمَالُ بِالْجَوَارِحِ تَصْدِيقٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقِ الْإِيمَانَ بِعَمَلِهِ بِجَوَارِحِهِ مِثْلِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَأَشْبَاهٍ لِهَذِهِ، وَمَنْ رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَلَمْ تَنْفَعْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْقَوْلُ، وَكَانَ لِلْعَمَلِ تَكْذِيبًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، وَكَانَ الْعِلْمُ بِمَا ذَكَرْنَا تَصْدِيقًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، فَاعْلَمْ ذَلِكَ هَذَا مَذْهَبُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَهُوَ مُرْجِئٌ خَبِيثٌ، احْذَرْهُ عَلَى دِينِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دَيْنُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5 ] )) أ.هـ الأربعين حديثا للإمام الآجري ط أضواء السلف
و قد استعنت الله تعالى في تكملة الرد على شبهات المرجئة عسى الله أن يحشرنا في جملة من ينفون عن دينه تحريف الغالين و انتحال المبطلين و تمويه المرجئة الضالين و حسبنا الله و نعم الوكيل .
و قد انتظم هذا البحث في :
1- تقرير مذهب أهل السنة المحضة في مسمى الإيمان
2- أقوال بعض أهل العلم في لزوم اجتماع أركان الإيمان الثلاثة في مسمى الإيمان ،و أن قول القائل بنجاة تارك أعمال الجوارح مذهب أهل البدع من المرجئة و الجهمية
3- تلازم الظاهر و الباطن عند السلف
4- شبهات و أغلاط المرجئة من كلام الإمام ابن تيمية
مذهب أهل السنة المحضة في مسمى الإيمان
ممن حكى الإجماع على قول السلف في الإيمان و أن أركانه لا تنفع إلا مجتمعة :الشافعي رحمه الله ،كما ذكر الآجري في (الشريعة ) و شيخ الإسلام (الإيمان الأوسط ط مؤسسة الرسالة ) :
((و كان كل من الطائفتين بعد السلف و الجماعة و أهل الحديث متناقضين،حيث قالوا:الإيمان قول و عمل و قالوا مع ذلك لا يزول بزوال بعض الأعمال،حتى إن ابن الخطيب و أمثاله جعلوا الشافعي متناقضا في ذلك،فإن الشافعي كان من أئمة السنة و له في الرد على المرجئة كلام مشهور،وقد ذكر في كتاب الطهارة من (الأم) إجماع الصحابة و التابعين و تابعيهم على قول أهل السنة''..)) اهـ الأوسط ص 36
وقال أيضا :
(( ولهذا كان القول :إن الإيمان قول و عمل عند أهل السنة ،و من شعائر أهل السنة و حكى غير واحد الإجماع على ذلك ،و قد ذكرنا عن الشافعي رضي الله عنه ما ذكره من الإجماع على ذلك قوله في ((الأم)) : وكان الإجماع من الصحابة، والتابعين من بعدهم, ومن أدركناهم يقولون :الإيمان : قول وعمل ونية ؛ لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر )) .اهـ الإيمان الكبير ص241 ت الألباني .
فالإيمان عند أهل السنة إذا: قول و عمل ،يزيد بالطاعة،و ينقص بالمعصية، و يجوز الاستثناء فيه على سبيل الموافاة والكمال،فالقول المطلق يشمل قول القلب و اللسان،و العمل المطلق يشمل عمل القلب و الجوارح و الكل لازم–مع القدرة و التمكن- سواء لتحقيق الإيمان الواجب أو الكامل المطلق،
قال الإمام أبو بكر الآجري رحمه الله :
(( حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ: فَقُلْتُ لِهِشَامٍ: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: " الْإِيمَانُ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ " وَكَانَ مُحَمَّدٌ الطَّائِفِيُّ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ» . قَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ: وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ» قَالَ يَحْيَى: وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ» ، قَالَ: وَكَانَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ))
((فَالْأَعْمَالُ رَحِمَكُمُ اللَّهُ بِالْجَوَارِحِ: تَصْدِيقٌ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقِ الْإِيمَانَ بِعَمَلِهِ وَبِجَوَارِحِهِ: مِثْلُ الطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَأَشْبَاهٌ لِهَذِهِ وَرَضِيَ مِنْ نَفْسِهِ بِالْمَعْرَفِةِ وَالْقَوْلِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْقَوْلُ، وَكَانَ تَرْكُهُ لِلْعَمَلِ تَكْذِيبًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، وَكَانَ الْعَمَلُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ تَصْدِيقًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ))
و قال شيخ الاسلام شارحا قول السلف في هذا (الإيمان الأوسط ص 33- 34 )
(( فقول السلف يتضمن القول و العمل،الباطن و الظاهر،لكن لما كان بعض الناس قد لا يفهم دخول النية في ذلك قال بعضهم:و نية ،ثم بين آخرون أن مطلق القول و العمل و النية لا يكون مقبولا إلا بموافقة السنة،و هذا حق أيضا،فإن أولئك قالوا : قول و عمل لاشتماله على الجنس و لم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال و الأعمال،و كذلك قول من قال:اعتقاد بالقلب و قول باللسان،و عمل بالجوارح،جعل القول اسما لما يظهر فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب و لا بد أن يدخل في قوله اعتقاد القلب أعمال القلب المقارنة لتصديقه مثل حب الله و خشية الله و التوكل على الله،و نحو ذلك،فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها)) اهـ
قلت : فقوله رحمه الله:(( فإن أولئك قالوا :قول و عمل لاشتماله على الجنس و لم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال و الأعمال)) صريح في لزوم أركان الإيمان الثلاثة القول باللسان و الاعتقاد و عمل القلب و الجوارح-مع القدرة- لتحقيق الإيمان الواجب و قد بين رحمه الله أن المراد منها : جنس القول و العمل،و هذا ظاهر كلامه،على أننا نذكر: إن إطلاق شيخ الاسلام عمل القلب دون الجوارح أحيانا،يدل بطريق اللزوم على أعمال الجوارح فهما أمران متلازمان عنده كما سيأتي،و عليه فلا مستمسك للمخالف بنصوص يوهم ظاهرها تحقق مطلق الإيمان بدون شيء من العمل الظاهر مع القدرة و الله الموفق .
التلازم بين الظاهر و الباطن عند أهل السنة
إن مما يعين على فهم مذهب السلف الصالح و تحرير مذهبهم في مسألة الإيمان والكفر ضبط هذه القاعدة الأصيلة التي دل عليها كتاب الله عز و جل و سنة رسوله، و العقل السليم من الشبهات،فالظاهر عنوان الباطن و مترجم لما ينطوي عليه و أهل العلم مطبقون على هذا الأصل إذ الأحكام الدنيوية مبنية على الظاهر،فالمنافق إذا أظهر نفاقه حكم بردته و لم ينفعه دعواه الإيمان و كذلك أهل الشرك من القبوريين أو عباد الأموات و ما دخلت على مرجئة عصرنا شبهة إعذار الجاهل بالتوحيد إلا لعدم ضبطهم لأصول أهل السنة في باب الأسماء و الأحكام و الله المستعان .
و من ثمرات هذه القاعدة أن الكفر عند أهل السنة يكون بالفعل كما يكون بالقول و الاعتقاد أو الشك،و من شبه الجهمية في هذا الباب دعواهم إمكان إظهار ما هو كفر كسب الله أو الرسول أو غيرها من المكفرات مع ثبوت إيمان من قام به هذا الوصف !! و قد فند هذه الشبهة شيخ الاسلام في مواضع كثيرة من كتبه كالصارم المسلول و الإيمان الكبير ...
يقول شيخ الاسلام مبينا هذا الأصل،و مقررا له:الإيمان الأوسط ص 60
((و المرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا ،و جعلها هي التصديق فهذا ضلال بين ،و من قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم :العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه ،و انتفاء الظاهر دليل على انتفاء الباطن ))
(( وقال : و متى حصل له هذا الإيمان،وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان و الصلاة و الصيام و الحج،لأن إيمانه بالله و ملائكته و رسله يقتضي الاستسلام لله و الانقياد له،و إلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار و الحب و الانقياد باطنا و لا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون و جود المراد ))
(( و قيل لمن قال دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز نزاعك لفظي ،فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب و موجباته كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم،فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا.. )) ص 74
و قال رحمه الله ص 61
(( و السلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان ... و أيضا فإخراجهم العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضا و هذا باطل قطعا ،فإن من صدق السول و أبعضه و عاداه بقلبه و بدنه فهو كافر قطعا بالضرورة ،و إن أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطأوا أيضا لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن. .)) اهـ
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: (الصلاة و حكم تاركها ط دار الكتب العلمية ص 19 )
((و هذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة و لا ترك معصية،و نحن نقول الإيمان هو التصديق و لكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له،ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيمانا لكان إبليس و فرعون و قومه و قوم صالح و اليهود الذين عرفوا أن محمدا رسول الله كما يغرفون آباءهم مؤمنين مصدقين..)) اهـ
و قال رحمه ص 24
(( و هاهنا أصل آخر،و هو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول و عمل و القول قسمان :قول القلب و هو الاعتقاد،و قول اللسان و هو التكلم بكلمة الإسلام.و العمل قسمان:عمل القلب و هو نيته و إخلاصه،و عمل الجوارح ...
و إذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب ،فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح،و لا سيما إذا كان ملزوما لعدم محبة القلب و انقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم،كما تقدم تقريره،فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح،إذا لو أطاع القلب انقاد أطاعت الجوارح و انقادت،و يلزم من عدمه طاعته و انقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة و هو حقيقة الإيمان.فإن الإيمان ليس مجرد التصديق –كما تقدم بيانه-و إنما هو التصديق المستلزم للطاعة و الانقياد...)) اهـ
و قال العلامة الشيخ حافظ حكمي رحمه الله مشيرا إلى هذا التقرير: (معارج القبول ج2/ص19 ط دار ابن رجب ت الأزهري )
((و محال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب،قال النبي صلى الله عليه و سلم:((إن في الجسد مضغة إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب)) .و من هنا يتبين لك قول من قال من أهل السنة في الإيمان هو التصديق على ظاهر اللغة ،أنهم عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهرا و باطنا بلا شك ،لم يعنوا مجرد التصديق ...)) اهـ
قلت : بهذا التأصل يتبين خطأ المرجئة المعاصرين الذين يحملون نصوص بعض الأئمة التي يوحي ظاهرها أن عمل القلب وحده مجزئ في تحقيق الإيمان المنجي الواجب،أو اعتباره موضع الخلاف مع المرجئة ! و كيف يسلم لهم هذا و هؤلاء العلماء يقررون-كما سبق- تلازم الظاهر و الباطن، و علاقتهما الوثيقة،كما نضيف إلى هذا: إن هؤلاء ممن يكفر بترك الصلاة فكيف ينسب إليهم القول بنجاة تارك الأعمال بالكلية !؟
أقوال بعض أهل العلم في لزوم اجتماع أركان الإيمان الثلاثة في مسمى الإيمان
الإمام محمد بن الحسين الآجري (ت 360) ( الشريعة ج1/ ص 274-275 -277- 278-280-284-288-289 ط مؤسسة قرطبة ت الوليد النصر )
(( بَابُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا، إِلَّا أَنْ تَجْتَمِعَ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثُ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: اعْمَلُوا رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ أَنَّ الَّذِيَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَهُوَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، ثُمَّ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ وَالتَّصْدِيقٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ بِاللِّسَانِ نُطْقًا، وَلَا تُجْزِيءُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ، حَتَّى يَكُونَ عَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، فَإِذَا كَمُلَتْ فِيهِ هَذِهِ الثَّلَاثُ الْخِصَالِ: كَانَ مُؤْمِنًا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ، وَالسُّنَّةُ، وَقَوْلُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ: فَأَمَّا مَا لَزِمَ الْقَلْبَ مِنْ فَرْضِ الْإِيمَانِ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)) أ.هـ
(( وَأَخْبَرَنَا أَيْضًا خَلَفُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ: عَنِ الْإِيمَانِ؟ فَقَالَ: «قَوْلٌ وَعَمَلٌ» وَسَأَلْتُ ابْنَ الْجَرِيحِ، فَقَالَ: «قَوْلٌ وَعَمَلٌ» وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، فَقَالَ: «قَوْلٌ وَعَمَلٌ» , وَسَأَلْتُ نَافِعَ بْنَ عُمَرَ الْجُمَحِيَّ، فَقَالَ: «قَوْلٌ وَعَمَلٌ» ، وَسَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، فَقَالَ: «قَوْلٌ وَعَمَلٌ» وَسَأَلْتُ فُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ، فَقَالَ: «قَوْلٌ وَعَمَلٌ» وَسَأَلْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ، فَقَالَ: «قَوْلٌ وَعَمَلٌ» ، قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: وَسَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ: " أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ، وَالْجَهْمَيَّةُ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ الْمَعْرِفَةُ )) أ.هـ
(( حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ: فَقُلْتُ لِهِشَامٍ: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: " الْإِيمَانُ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ " وَكَانَ مُحَمَّدٌ الطَّائِفِيُّ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ» . قَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ: وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ» قَالَ يَحْيَى: وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ» ، قَالَ: وَكَانَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ))
((فَالْأَعْمَالُ رَحِمَكُمُ اللَّهُ بِالْجَوَارِحِ: تَصْدِيقٌ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقِ الْإِيمَانَ بِعَمَلِهِ وَبِجَوَارِحِهِ: مِثْلُ الطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَأَشْبَاهٌ لِهَذِهِ وَرَضِيَ مِنْ نَفْسِهِ بِالْمَعْرَفِةِ وَالْقَوْلِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْقَوْلُ، وَكَانَ تَرْكُهُ لِلْعَمَلِ تَكْذِيبًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، وَكَانَ الْعَمَلُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ تَصْدِيقًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ))
((وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهَمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ شَرَائِعَ الْإِيمَانِ أَنَّهَا عَلَى هَذَا النَّعْتِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَبَيَّنْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافَ مَا قَالَتِ الْمُرْجِئَةُ، الَّذِينَ لَعِبَ بِهِمُ الشَّيْطَانُ ))
((قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: اعْلَمُوا رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، وَيَا أَهْلَ الْعِلْمِ، وَيَا أَهْلَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ، وَيَا مَعْشَرَ مَنْ فَقَّهَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدِّينِ، بِعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَنَّكُمْ إِنْ تَدَبَّرْتُمُ الْقُرْآنَ، كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَبِرَسُولِهِ: الْعَمَلَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُثْنِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ قَدْ رَضُوا عَنْهُ وَأَثَابَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الدُّخُولَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ، إِلَّا الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَقَرَنَ مَعَ الْإِيمَانِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، لَمْ يُدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ، حَتَّى ضَمَّ إِلَيْهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، الَّذِي قَدْ وَفَّقَهُمْ لَهُ، فَصَارَ الْإِيمَانُ لَا يَتِمُّ لِأَحَدٍ حَتَّى يَكُونَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ، وَنَاطِقًا بِلِسَانِهِ، وَعَامِلًا بِجَوَارِحِهِ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَتَصَفَّحَهُ، وَجَدَهُ كَمَا ذَكَرْتُ وَاعْلَمُوا رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكُمْ أَنِّي قَدْ تَصَفَّحْتُ الْقُرْآنَ فَوَجَدْتُ فِيهِ مَا ذَكَرْتُهُ فِي سِتَّةٍ وَخَمْسِينَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُدْخِلِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ، بَلْ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَبِمَا وَفَقَّهُمْ لَهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ: الْمَعْرِفَةُ , وَرَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: الْمَعْرِفَةُ وَالْقَوْلُ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ قَائِلِ هَذَا )) أ.هـ
((قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: مَيِّزُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ قَوْلَ مَوْلَاكُمُ الْكَرِيمِ: هَلْ ذَكَرَ الْإِيمَانَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا وَقَدْ قَرَنَ إِلَيْهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ؟ وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] فَأَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ حَقِيقَةٌ أَنْ يُرْفَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَمَلِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ بَطَلَ الْكَلَامُ مِنْ قَائِلِهِ، وَرُدَّ عَلَيْهِ، وَلَا كَلَامٌ طَيِّبٌ أَجَلَّ مِنَ التَّوْحِيدِ وَلَا عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ أَجَلَّ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ ))
(( قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتَّقِينَ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْهُ، وَدُخُولَهَمُ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ يَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ لَوْ جَمَعْتُهُ , مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الزُّخْرُفِ {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] إِلَى قَوْلِهِ {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] وَمِثْلَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ ق، وَالذَّارِيَاتِ، وَالطُّورِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ، فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ..
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: كُلُّ هَذَا يَدُلُّ الْعَاقِلَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ، وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ، كَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ، وَأَنَا بَعْدَ هَذَا أَذْكُرُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَنْ كَثِيرٍ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ عِنْدَهُمْ بِهَذَا فَقَدْ كَفَرَ )) أ.هـ
و قال رحمه الله في كتابه ( الأربعبن حديثا للآجري ط أضواء السلف ص 110-113):
((12- حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ , قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنُ سُكَيْنٍ الْبَلْدِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ صَالِحٍ الْخُرَاسَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الرِّضَا عَلِيُّ بْنُ مُوسَى عَنْ أَبِيه مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ، وَيَقِينٌ بِالْقَلْبِ»
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْإِيمَانِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يُخَالِفُ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا مُرْجِئٌ خَبِيثٌ مَهْجُورٌ مَطْعُونٌ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ، وَأَنَا أُبَيِّنُ مَعْنَى هَذَا لِيَعْلَمَهُ جَمِيعُ مَنْ نَظَرَ فِيهِ نَصِيحَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. اعْلَمُوا رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ أَنَّ الَّذِيَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، ثُمَّ اعْلَمُوا رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِيمَانٌ بِاللِّسَانِ، وَحَتَّى يَكُونَ مَعَهُ نُطْقٌ، وَلَا تُجْزِئُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَالنُّطْقِ بِاللِّسَانِ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ عَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، فَإِذَا كَمُلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثَةُ كَانَ مُؤْمِنًا وَحَقًّا، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَقَوْلُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا مَا لَزِمَ الْقَلْبَ مِنْ فَرْضِ الْإِيمَانِ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41] إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114] ....
.... فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ عَلَى الْقَلْبِ فَرْضَ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْمَعْرِفَةُ، وَلَا يَنْفَعُ الْقَوْلُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَلْبُ مُصَدِّقًا بِمَا يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ مَعَ الْعَمَلِ، وَأَمَّا فَرْضُ الْإِيمَانِ بِاللِّسَانِ فَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، وَالْأَسْبَاطِ، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى، وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ، مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} الْآيَةَ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} الْآيَةَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ. . .» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَهَذَا الْإِيمَانُ بِاللِّسَانِ نُطْقًا وَاجِبًا، وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْجَوَارِحِ تَصْدِيقًا لِمَا آمَنَ بِهِ الْقَلْبُ وَنَطَقَ بِهِ اللِّسَانُ، فَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمِثْلُهُ فَرْضُ الصِّيَامِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَمِثْلُهُ فَرْضُ الْحَجِّ، وَفَرْضُ الْجِهَادِ عَلَى الْبَدَنِ بِجَمِيعِ الْجَوَارِحِ، فَالْأَعْمَالُ بِالْجَوَارِحِ تَصْدِيقٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقِ الْإِيمَانَ بِعَمَلِهِ بِجَوَارِحِهِ مِثْلِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَأَشْبَاهٍ لِهَذِهِ، وَمَنْ رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَلَمْ تَنْفَعْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْقَوْلُ، وَكَانَ لِلْعَمَلِ تَكْذِيبًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، وَكَانَ الْعِلْمُ بِمَا ذَكَرْنَا تَصْدِيقًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، فَاعْلَمْ ذَلِكَ هَذَا مَذْهَبُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَهُوَ مُرْجِئٌ خَبِيثٌ، احْذَرْهُ عَلَى دِينِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دَيْنُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5 ] )) أ.هـ
قال الإمام ابن بطة العكبري الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (ج1/ ص314 -315 -317 -321 -322 -323 -324 -325 -329 -330 -331 -333 -334 .. ط دار الكتب العلمية )
[ بَابُ بَيَانِ الْإِيمَانِ وَفَرْضِهِ وَأَنَّهُ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ وَالْحَرَكَاتِ، لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُؤْمِنًا إِلَّا بِهَذِهِ الثَّلَاثِ ]
((فَكُلُّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ أَوْ أَكَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُنَّتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْجُحُودِ لَهَا وَالتَّكْذِيبِ بِهَا , فَهُوَ كَافِرٌ بَيِّنُ الْكُفْرِ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ عَاقِلٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَمَنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَقَالَهُ بِلِسَانِهِ , ثُمَّ تَرَكَهُ تَهَاوُنًا وَمُجُونًا أَوْ مُعْتَقِدًا لَرَأْيِ الْمُرْجِئَةِ وَمُتَّبِعًا لِمَذَاهِبِهِمْ , فَهُوَ تَارِكُ الْإِيمَانِ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِنْهُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ وَهُوَ فِي جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ نَافَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِوَصْفِهِمْ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ , وَإِنَّهُمْ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، نَسْتَجِيرُ بِاللَّهِ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُرْجِئَةِ الضَّالَّةِ )) أ.هـ
((َ اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ جَلَّ لَمْ يُثْنِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَلَمْ يَصِفْ مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ , وَالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ , وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ بِرِضَاهُ عَنْهُمْ إِلَّا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ , وَالسَّعْيِ الرَّابِحِ , وَقَرَنَ الْقَوْلَ بِالْعَمَلِ , وَالنِّيَّةَ بِالْإِخْلَاصِ , حَتَّى صَارَ اسْمُ الْإِيمَانِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ لَا يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ , وَلَا يَنْفَعُ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ , حَتَّى صَارَ الْإِيمَانُ قَوْلًا بِاللِّسَانِ , وَعَمَلًا بِالْجَوَارِحِ , وَمَعْرِفَةً بِالْقَلْبِ خِلَافًا لِقَوْلِ الْمُرْجِئَةِ الضَّالَّةِ الَّذِينَ زَاغَتْ قُلُوبُهُمْ , وَتَلَاعَبَتِ الشَّيَاطِينُ بِعُقُولِهِمْ , وَذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِهِ , وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُنَّتِهِ )) أ.هـ
(( فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُقِرُّ بِالْفَرَائِضِ وَلَا يُؤَدِّيهَا وَيَعْلَمُهَا , وَبِتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَلَا يَنْزَجِرُ عَنْهَا وَلَا يَتْرُكُهَا , وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ , فَقَدْ كَذَّبَ بِالْكِتَابِ , وَبِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ , وَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41 ]
فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ , وَسَمَّاهُمْ مُنَافِقِينَ , مَأْوَاهُمُ الدَّرْكُ الْأَسْفَلُ مِنَ النَّارِ. عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمُرْجِئَةِ , لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ جَحَدُوا الْعَمَلَ وَعَمَلُوهُ , وَالْمُرْجِئَةُ أَقَرُّوا بِالْعَمَلِ بِقَوْلِهِمْ وَجَحَدُوهُ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ , فَمَنْ جَحَدَ شَيْئًا , وَأَقَرَّ بِهِ بِلِسَانِهِ وَعَمَلَهُ بِبَدَنِهِ أَحْسَنُ حَالًا مِمَّنْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ وَأَبَى أَنْ يَعْمَلَهُ بِبَدَنِهِ , فَالْمُرْجِئَةُ جَاحِدُونَ لِمَا هُمْ بِهِ مُقِرُّونَ , وَمُكَذِّبُونَ بِمَا هُمْ بِهِ مُصَدِّقُونَ، فَهُمْ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَيْحَ لِمَنْ لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ دَلِيلَهُ , فَمَا أَضَلَّ سَبِيلَهُ , وَأَكْسَفَ بَالَهُ , وَأَسْوَأَ حَالَهُ.)) أ.هـ
((فَتَأَمَّلُوا هَذَا الْخَطَّابَ , وَاعْقِلُوا عَنْ مَوْلَاكُمْ , وَاعْرِفُوا السَّبَبَ الَّذِي بِهِ أَعَدَّ اللَّهُ الْخَيْرَاتِ , وَالْجَنَّاتِ هَلْ تَجِدُونَهُ غَيْرَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ , وَلَقَدْ آمَنَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ , وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ , وَآتَوُا الزَّكَاةَ , وَصَدَّقُوا التَّنْزِيلَ , وَاتَّبَعُوا الرَّسُولَ فَاسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ , وَمَيَّزَهُمْ مِنْ أَهْلِ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ , فَقَالَ:
((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا)) [الأنفال: 72]. ثُمَّ ذَكَرَ قَوْمًا آمَنُوا بِمَكَّةَ أَمْكَنَتْهُمُ الْهِجْرَةُ وَقَدَرُوا عَلَيْهَا , فَتَخَلَّفُوا عَنْهَا , فَلَمْ يَدْعُهُمْ بِاسْمِ الْإِيمَانِ , لَكِنْ سَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ , وَقَالَ فِيهِمْ قَوْلًا عَظِيمًا , فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]. وَكُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَا تَدَّعِيهِ الْمُرْجِئَةُ , وَتَذْهَبُ إِلَيْهِ مِنْ إِخْرَاجِهَا الْفَرَائِضَ وَالْأَعْمَالَ مِنَ الْإِيمَانِ , وَتَكْذِيبٌ لَهَا أَنَّ الْفَوَاحِشَ وَالْكَبَائِرَ لَا تَنْقُصُ الْإِيمَانَ , وَلَا تَضُرُّ بِهِ , وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} [يونس: 4]. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9]. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 63 ] )) أ.هـ
((قَالَ الشَّيْخُ: فَقَدْ تَلَوْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا يَدُلُّ الْعُقَلَاءَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ , وَأَنَّ مَنْ صَدَّقَ بِالْقَوْلِ وَتَرَكَ الْعَمَلَ كَانَ مُكَذِّبًا , وَخَارِجًا مِنَ الْإِيمَانِ , وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ قَوْلًا إِلَّا بِعَمَلٍ , وَلَا عَمَلًا إِلَّا بِقَوْلٍ .)) أ.هـ
((وَكَانَ مِمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِمَّا أَعْلَمَنَا أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ , وَأَنَّ الْعَمَلَ مِنَ الْإِيمَانِ مَا قَالَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوْصَافَ الْإِيمَانِ وَشَرَائِطَهُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْإِخْلَاصِ. وَلَقَدْ سَأَلَ أَبُو ذَرٍّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ , فَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ )) أ.هـ
((1070 - حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ , وَأَبُو الْقَاسِمِ مُلَيْحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُلَيْحٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ , قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ , عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , عَنْ بَيَانٍ , عَنِ الشَّعْبِيِّ , قَالَ: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138] قَالَ: «بَيَانٌ مِنَ الْعَمَى , وَهُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ , وَمَوْعِظَةٌ مِنَ الْجَهْلِ» قَالَ الشَّيْخُ: فَأَيُّ عَبْدٍ أَتْعَسُ جَدًا , وَلَا أَعْظَمُ نَكِدًا , وَلَا أَطْوَلُ شَقَاءً وَعَنَاءً مِنْ عَبْدٍ حُرِمَ الْبَصِيرَةَ بِنُورِ الْقُرْآنِ , وَالْهِدَايَةَ بِدَلَالَتِهِ , وَالزَّجْرَ بِمَوْعِظَتِهِ , قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] , وَقَوْلُهُ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ قَالَ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]. فَالْهُدَى هُدَى الْإِيمَانِ وَهُوَ الْقَوْلُ , وَالدِّينُ هُوَ الْعَمَلُ , وَجَمِيعُ الْفَرَائِضِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ , وَمُجَانَبَةُ الْحَرَامِ وَالْآثَامِ. فَالدِّينُ لَيْسَ هُوَ خَصْلَةً وَاحِدَةً , وَلَكِنَّهُ خِصَالٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ مِنْ فَرَائِضَ وَأَحْكَامٍ , وَشَرَائِعَ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ , فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33] يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ , حَتَّى صَارَ دِينًا قِيَمًا , فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ عَمِلَ بِجَمِيعِ مَا فِيهِ , وَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِهِ وَكَفَرَ بِبَعْضِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ. وَمَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ دِينِ الْحَقِّ وَلَا مُؤْمِنٌ وَلَا مُهْتَدٍ , وَلَا عَامِلٌ بِدِينٍ الْحَقِّ , وَلَا قَابِلٌ لَهُ , لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْلَمَنَا أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ بِإِكْمَالِ الْفَرَائِضِ , قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الصِّدْقَ مِنْهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ , وَالْعَمَلَ بِجَمِيعِ مَا افْتَرَضَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ , وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ , وَحَجِّ الْبَيْتِ , وَمَا بَذَلُوهُ مِنْ مُهَجِ أَنْفُسِهِمْ , وَنَفَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ , وَالْخُرُوجِ عَنْ دِيَارِهِمْ , وَهُجْرَانِ آبَائِهِمْ , وَقَطِيعَةِ أَهْلِيهِمْ , وَهُجْرَانِ شَهَوَاتِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ مِمَّا حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ , وَعَلِمَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِمَا زَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِهِمْ , وَحَبَّبَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ وَالْعَمَلِ بِأَوَامِرِهِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ زَوَاجِرِهِ , سَمَّى هَذِهِ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا إِيمَانًا , فَقَالَ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات: 8]. فَاسْتَحَقُّوا اسْمَ الرَّشَادِ بِإِكْمَالِ الدِّينِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي فُسْحَةٍ وَسَعَةٍ , لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ صَلَاةٌ , وَلَا زَكَاةٌ , وَلَا صِيَامٌ , وَلَا كَانَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كَثِيرًا مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ , وَكَانَ اسْمُ الْإِيمَانِ وَاقِعًا عَلَيْهِمْ بِالتَّصْدِيقِ تَرَفُّقًا بِهِمْ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَجَفَائِهَا , فَجَعَلَ الْإِقْرَارَ بِالْأَلْسُنِ وَالْمَعْرِفَةَ بِالْقُلُوبِ الْإِيمَانَ الْمُفْتَرَضَ يَوْمَئِذٍ، حَتَّى إِذَا حَلَّتْ مَذَاقَةُ الْإِيمَانِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ , وَحَسُنَتْ زِينَتُهُ فِي أَعْيُنِهِمْ , وَتَمَكَّنَتْ مَحَبَّتُهُ مِنْ قُلُوبِهِمْ , وَأَشْرَقَتْ أَنْوَارُ لُبْسَتِهِ عَلَيْهِمْ , وَحَسُنَ اسْتِبْصَارُهُمْ فِيهِ , وَعَظُمَتْ فِيهِ رَغْبَتُهُمْ تَوَاتَرَتْ أَوَامِرُهُ فِيهِمْ , وَتَوَكَّدَتْ فَرَائِضُهُ عَلَيْهِمْ , وَاشْتَدَّتْ زَوَاجِرُهُ وَنَوَاهِيهِ. فَكُلَّمَا أَحْدَثَ لَهُمْ فَرِيضَةً عِبَادَةً وَزَاجِرَةً عَنْ مَعْصِيَةٍ ازْدَادُوا إِلَيْهِ مُسَارَعَةً وَلَهُ طَاعَةً , دَعَاهُمْ بِاسْمِ الْإِيمَانِ , وَزَادَهُمْ فِيهِ بَصِيرَةً , فَقَالَ: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78]. وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. . الْآيَةَ. وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] , ثُمَّ قَالَ فِي فَرْضِ الْجِهَادِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]. وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38]. وَنَظَائِرُ لِهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ , وَقَالَ فِي النَّهْيِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران: 130] , وَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] , وَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزَلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] , فَعَلَى هَذَا كُلُّ مُخَاطَبَةٍ , كَانَتْ مِنْهُ لَهُمْ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى , وَأَبَاحَ وَحَظَرَ , وَكَانَ اسْمُ الْإِيمَانِ وَاقِعًا بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فَرْضٌ غَيْرُهُ , فَلَمَّا نَزَلَتِ الشَّرَائِعُ بَعْدَ هَذَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْتِزَامُ فَرْضِهَا , وَالْمُسَارَعَةُ إِلَيْهَا كَوُجُوبِ الْأَوَّلِ سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا , لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , وَبِأَمْرِهِ وَإِيجَابِهِ. وَلَقَدْ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ بِمَكَّةَ , فَصَلَّوْا نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ , فَلَمَّا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ أَقَامُوا بِهَا يُصَلُّونَ نَحْوَهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا , ثُمَّ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ نَحْوَ الْكَعْبَةِ , فَلَوْ لَمْ يُصَلُّوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ كَمَا أُمِرُوا لَمَا أَغْنَى عَنْهُمُ الْإِقْرَارُ الْأَوَّلُ , وَلَا الْإِيمَانُ الْمُتَقَدَّمُ. وَلَقَدْ بَلَغَ بِهِمُ الْإِشْفَاقُ فِي الطَّاعَةِ وَالْمُسَارَعَةُ إِلَيْهَا أَنْ خَافُوا عَلَى مَنْ مَاتَ , وَهُوَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ , حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُرْآنًا أَزَالَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْإِشْفَاقَ , وَأَعْلَمُهُمْ بِهِ أَيْضًا أَنَّ الصَّلَاةَ إِيمَانٌ. فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ))أ.هـ
(( فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ وَأَحْكَامِهِ وَفَرَائِضِهِ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ , وَأَنَّ التَّارِكَ لَهَا وَالْمُتَثَاقِلَ عَنْهَا مُؤْمِنٌ , فَقَدَ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ , وَخَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ , وَنَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ , وَنَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ , قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]. ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 82] , ثُمَّ قَالَ: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83] , ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 82]. )) أ.هـ
(( 1074 - حَدَّثَنَا أَبُو شَيْبَةَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرٍ , قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ , قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ , قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ , عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ , عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. يَقُولُ: «تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ الْإِيمَانِ , وَحَقَّقُوهُ بِالْعَمَلِ» قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: الْإِيمَانُ كَلَامٌ وَحَقِيقَتُهُ الْعَمَلُ , فَإِنْ لَمْ يُحَقِّقِ الْقَوْلَ بِالْعَمَلِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْقَوْلُ. قَالَ الشَّيْخُ: وَحَسْبُكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِآيَةٍ جَمَعَتْ كُلَّ قَوْلٍ طَيِّبٍ , وَكُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ , قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. فَإِنَّهُ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ وَالْإِخْلَاصَ وَالطَّاعَةَ لِعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ , وَالْإِيمَانَ بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ , وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ , فَهَلْ لِلْعِبَادَةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ الْعِبَادَ لَهَا عَمَلٌ غَيْرُ عَمَلٍ مِنَ الْإِيمَانِ , فَالْعِبَادَةُ مِنَ الْإِيمَانِ هِيَ أَوْ مِنْ غَيْرِ الْإِيمَانِ , فَلَوْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ الَّتِي خَلَقَهُمُ اللَّهُ لَهَا قَوْلًا بِغَيْرِ عَمَلٍ لَمَا أَسْمَاهَا عِبَادَةً , وَلَسَمَّاهَا قَوْلًا , وَلَقَالَ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَقُولُونَ , وَلَيْسَ يَشُكُّ الْعُقَلَاءُ أَنَّ الْعِبَادَةَ خِدْمَةٌ , وَأَنَّ الْخِدْمَةَ عَمَلٌ , وَأَنَّ الْعَامِلَ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا عَمَلُهُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ , وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَطَاعَةُ اللَّهِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ وَأَدَاءِ الْفَرَائِضِ , قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هَوُ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]. . الْآيَةَ. فَهَلْ يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ سَمِعَ هَذَا الْخَطَّابَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ نَصُّ الْكِتَابِ أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ قَدِ انْتَظَمَ التَّصْدِيقَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْمَعْرِفَةِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162].
وَقَالَ: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنعام: 71]. وَإِقَامُ الصَّلَاةِ هُوَ الْعَمَلُ , وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ , وَأَمَرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ , فَمَا ظَنُّكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ بِمَنْ يَقُولُ: إِنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 31]. فَجَعَلَ اللَّهُ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُشْرِكًا خَارِجًا مِنَ الْإِيمَانِ , لِأَنَّ هَذَا الْخَطَّابَ لِلْمُؤْمِنِينَ تَحْذِيرٌ لَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا الصَّلَاةَ , فَيَخْرُجُوا مِنَ الْإِيمَانِ , وَيَكُونُوا كَالْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}. فَقَالَ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ , وَأَقَامَ الصَّلَاةَ , وَآتَى الزَّكَاةَ , فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ , فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ لَمْ تَنْفَعْهُ الصَّلَاةُ , وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ لَمْ يَنْفَعْهُ الْإِيمَانُ , وَاسْتَدَلَّ بِمَحَلِّ الصَّلَاةِ مِنَ الْإِيمَانِ وَنُزُولِهَا مِنْهُ بِالذُّرْوَةِ الْعُلْيَا , وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَهَا بِالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ , فَلَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ إِلَّا بِالطَّهَارَةِ , فَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ عِبَادَهُ يَكُونُونَ بِحَيْثُ لَا مَاءَ فِيهِ , وَبِحَالٍ لَا يَقْدِرُونَ مَعَهَا إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ , فَرَضَ عَلَيْهِمُ التَّيَمُّمَ بِالتُّرَابِ عِوَضًا مِنَ الْمَاءِ لِئَلَّا يَجِدَ أَحَدٌ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ مَنْدُوحَةً , وَلَا فِي تَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا رُخْصَةً , وَكَذَلِكَ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةَ فِي حَالِ شِدَّةِ الْخَوْفِ , وَمُبَارَزَةِ الْعَدُوِّ , فَأَمَرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي هُمْ فِيهَا , فَعَلَّمَهُمْ كَيْفَ يُؤَدُّونَهَا , فَهَلْ يَكُونُ أَحَدٌ هُوَ أَعْظَمُ جَهْلًا , وَأَقَلُّ عِلْمًا , وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ , وَأَشَدُّ تَكْذِيبًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَسُنَّةِ الْإِيمَانِ وَشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَرَضَ الصَّلَاةَ , وَجَعَلَ مَحَلَّهَا مِنَ الْإِيمَانِ هَذَا الْمَحِلَّ , وَمَوْضِعَهَا مِنَ الدِّينِ هَذَا الْمَوْضِعَ , وَأَلْزَمَ عِبَادَهُ إِقَامَتَهَا هَذَا الْإِلْزَامَ فِي هَذِهِ الْأَحَايِينِ , وَأَمَرَ بِالْمُحَافَظَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا عَلَى هَذِهِ الشَّدَائِدِ وَالضَّرُورَاتِ , فَيُخَالِفُ ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِ هَوَاهُ وَإِيَثَارِهِ لِرَأْيِهِ الْمُحْدَثِ الَّذِي ضَلَّ بِهِ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ , وَأَضَلَّ بِهِ مَنِ اتَّبَعَهُ فَصَارَ مِمَّنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى , وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ , فَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى , وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ , وَسَاءَتْ مَصِيرًا )) أ.هـ
((قَالَ الشَّيْخُ: فَقَدْ أَنْبَأَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْإِيمَانِ بِدَلَالَاتِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَتَصْدِيقٌ وَيَقِينٌ , وَأَنَّ جَمِيعَ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ وَالرَّيْبِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ , وَالْبُرْهَانِ , وَالْحَقِّ الْمُبِينِ , وَلَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَهُ شِفَاءً وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ: {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]. فَمَنْ لَمْ يَشْفِهِ الْقُرْآنُ , وَلَمْ تَنْفَعْهُ السُّنَّةُ وَمَا فِيهِمَا مِنَ النُّورِ وَالْبَيَانِ وَالْهُدَى وَالضِّيَاءِ , وَتَنَطَّعَ وَتَعَمَّقَ , وَقَالَ بِرَأْيِهِ , وَقَاسَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ بِفِعْلِهِ وَهَوَاهُ دَاخَلَ اللَّهَ فِي عَمَلِهِ , وَنَازَعَهُ فِي غَيْبِهِ , وَلَمْ يَقْنَعْ بِمَا كَشَفَ لَهُ عَنْهُ , حَتَّى خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ , وَخَرَقَ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ , وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا , وَخَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا , وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ , وَوَلَّاهَ اللَّهُ مَا تَوَلَّى , وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ , وَسَاءَتْ مَصِيرًا )) أ.هـ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :(شرح العمدة ص 86/ج2 ط دار العاصمة )
((فإن الإيمان عند أهل السنة و الجماعة قول و عمل كما دل عليه الكتاب و السنة،و أجمع عليه السلف على ما هو مقرر في موضعه ،فالقول تصديق الرسول ،و العمل تصديق القول فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا .)) اهـ
قال رحمه الله الإيمان الأوسط ط الرسالة ص 61
((و السلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان ... و أيضا فإخراجهم العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضا و هذا باطل قطعا ،فإن من صدق الرسول و أبغضه و عاداه بقلبه و بدنه فهو كافر قطعا بالضرورة ،و إن أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطأوا أيضا لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن )) اهـ
((و من الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه ،بأن الله فرض عليه الصلوات و الزكاة و الصيام و الحج ،و يعيش دهره لا يسجد لله سجدة و لا يصوم يوما من رمضان و لا يؤدي لله زكاة و لا يحج إلى بيته ،و لا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب و زندقة لا مع إيمان صحيح.)) ص93
و قال الشيخ الإمام محمد بن عبدالو هاب في كشف الشبهات و الدرر السنية) :
(( لا خلاف بين الأمة أن التوحيد : لا بد أن يكون بالقلب الذي هو العلم , واللسان الذي هو القول , والعمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي ؛ فإن أخلَّ بشيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً )) أ.هـ
و قال العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن :
((هذا ما دل عليه كلام شيخنا في ((كشف الشبهات)) و هذا مجمع عليه بين أهل العلم فإن اختل أحد هذه الثلاثة اختل الإسلام و بطل كما دل عليه حديث جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه و على آله و سلم عن الإسلام و الإحسان فبدأفي تعريف الإسلام بالشهادتين ،و لا شك أن العلم و القول و العمل مشترط في صحة الإتيان بهما ،و هذا لا يخفى على أحد شم رائحة العلم و إنما خالف في الخوارج فيما دون ذلك من ظلم العبد لنفسه و ظلمه لغيره من الناس ....و المعترض جاهل لا يفرق بين مسائل الإجماع و مسائل النزاع . )) اهـ مصباح الظلام ص 467 ت عبد العزيز آل زايد.
و قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن (فتح المجيد ط12 دار الأثير 46-65-69 باب فضل التوحيد و ما يكفر من الذنوب )
(( قوله : « من شهد أن لا إله إلا الله » أي : من تكلم بها عارفا لمعناها ، عاملا بمقتضاها ، باطنا وظاهرا ، فلا بد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولهما ، كما قال الله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } . . . ( محمد ـ 19 ) وقوله : . . . { إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ( الزخرف ـ 86 ) أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه : من البراءة من الشرك ، وإخلاص القول والعمل : قول القلب واللسان ، وعمل القلب والجوارح - فغير نافع بالإجماع ...
و قال رحمه الله :
(( وقال البقاعي : " لا إله إلا الله " ، أي : انتفاء عظيما أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم ، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة ، وإنما يكون علما إذا كان نافعا ، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه ، وإلا فهو جهل صرف ...
فدلت ( لا إله إلا الله ) على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائنا ما كان، و إثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه ، وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره ، كما قال تعالى عن الجن : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا }{ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا } ( الجن ـ 1 - 2 ) فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيا وإثباتا ، واعتقد ذلك وقبله وعمل به . وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل ، فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف ، فهي حجة عليه بلا ريب )) أ.هـ
أغلاط المرجئة و الجهمية من كلام شيخ الاسلام
وقبل أن أسوق كلام شيخ الاسلام بهذا الصدد ،أحببت الإشارة لتقرير مهم ذكره العلامة الشيخ صالح آل الشيخ حقق فيه خلاف أهل السنة و مرجئة الفقهاء في المسألة هذه،كما أشار فيه حفظه الله إلى التقرير الآتي :
(شريط:أسئلة في الإيمان و الكفر السؤال الثالث ) :)
س: من أخرج العمل عن مسمى الإيمان... لكن قالوا العمل ثمرة وليس من مسمى الإيمان، هل الخلاف بيننا حقيقي؟
ج: الخلاف بيننا وبينة مرجئة الفقهاء حقيقي وليس لفظيا ولا صوريا ولا شكليا
ومن حيث التنظير لا من حيث الواقع الفرق بيننا وبينهم أنه عندهم يُتصور أن يعتقد أحد الاعتقاد الحق الصحيح ويقول كلمة التوحيد ينطق بها ويترك جنس العمل؛ يعني لا يعمل عملا أبدا امتثالا لأمر الشرع، ولا يترك منهيا امتثالا لأمر الشرع، هذا عندهم مسلم مؤمن ولم لم يعمل البتة، وعندنا ليس بمسلم ولا بمؤمن حتى يكون عنده جنس العمل، ومعنى جنس العمل أن يكون ممتثلا لأمر من أوامر الله طاعة لله جل وعلا، منتهيا عن بعض نواهي الله، طاعة لله جل وعلا ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم أهل السنة اختلفوا هل الصلاة مثل غيرها؟ أم أن الصلاة أمرها يختلف، وهي المسألة المعروفة بتكفير تارك الصلاة تهاونا وكسلا، هذه اختلف فيها أهل السنة كما هو معروف، واختلافهم فيها ليس اختلاف في اشتراط العمل .
فمن قال يكفر بترك الصلاة تهاونا وكسلا يقول: العمل الذي يجب هنا هو الصلاة؛ لأنه إن ترك الصلاة فإنه لا إيمان له.
والآخر من أهل السنة الذين يقولون لا يكفر تارك الصلاة كسلا وتهاونا يقولون لابد من جنس عمل لابد من أن يأتي بالزكاة ممتثلا، بالصيام ممتثلا، بالحج ممتثلا يعني واحد منها، أن يأتي طاعة من الطاعات ممتثلا حتى يكون عنده بعض العمل أصل العمل؛ لأنه لا يسمى إيمان حتى يكون ثم عمل.
لأن حقيقة الإيمان راجعة إلى هذه الثلاثة النصوص القول والعمل والاعتقاد، فمن قال حقيقة الإيمان يخرج مها العمل فإنه ترك دلالة النصوص.
فإذن الفرق بيننا وبينهم حقيقي وليس شكليا أو صوريا.
هل هذا في الواقع مطبّق متصور أم غير متصور؟ هنا هو الذي يشكل على بعض الناس، يرى أنه لا يتصور أن يكون مؤمنا يقول كلمة التوحيد ويعتقد الاعتقاد الحق ولا يعمل خيرا قط يعني لا يأتي امتثالا لأمر الله ولا ينتهي عن محرم امتثالا لأمر الله، يقولون أن هذا غير متصور، ولما كان أنه غير متصور في الواقع عندهم صار الخلاف شكلي، كما ظنوه، لكن هذا ليس بصحيح لأننا ننظر إليها لا من جهة الواقع ننظر إليها من جهة دلالة النصوص فالنصوص دلت على أن العمل أحد أركان الإيمان، فإذا كانت دلت على ذلك فوجب جعله ركنا فمن خالف فيكون مخالفا خلافا أصليا وليس صوريا ولا شكليا خلافا جوهريا، هل يتمثل هذا في الواقع أو لا يتمثل؟ هذه المسألة الله جل وعلا هو الذي يتولى عباده فيها؛ لأنه العباد قد يفوتهم أشياء من حيث معرفة جميع الخلق وأعمال الناس وما أتوه وما تركوه، والله أعلم. اهـ
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله : (شرح حديث لا يزني الزاني..ضمن جامع المسائل ج5/ص 246 ط عالم الفوائد)
((و غلطوا غلطوا غلطا آخر غلطت فيه الجهمية أعظم ،و هو أنهم ظنوا القلب يقوم به الإيمان قياما لا يظهر على الجوارح. )) اهـ
و قال :الإيمان الأوسط ص 60 ط الرسالة
((و بهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما ،امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة،فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم لانتفاء الإيمان القلبي التام ،و بهذا يظهر خطأ جهم و من اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان القلب بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة فإن هذا ممتنع ،إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا و يحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة ..)) اهـ
قلت : مقصود الإمام رحمه الله بالإيمان التام :الإيمان الواجب لا المطلق،و هذا ظاهر من السياق،إذ ترك النطق بالشهادتين مع القدرة مشترط في صحة الإيمان-الواجب- بالإجماع،و انظر ما بعده من الكلام.
قلت أبو مصعب :و القول الذي حكاه شيخ الاسلام عن الجهم ومن اتبعه هو تماما ما يدعيه أصحابنا اليوم مستدلين –زعموا-بأحاديث الشفاعة و سيأتي نقض استدلالاتهم قريبا .
و قال أيضا :ص 60
((و منشأ الغلط في هذه المواضع من وجوه
الثالث :ظن الظان أن ما في القلب من الإيمان المقبول ،يمكن تخلف القول الظاهر و العمل الظاهر عنه
الرابع :ظن الظان أن ليس في القلب إلا التصديق و أن ليس الظاهر إلا عمل الجوارح ،و الصواب أن القلب له عمل مع التصديق و الظاهر قول ظاهر و عمل و كلاهما مستلزم للباطن..)) اهـ
وقال ص 72 :
((إذا تبين هذا و علم أن الإيمان الذي في القلب من التصديق و الحب وغير ذلك يستلزم الأمور الظاهرة من الأقوال الظاهرة و الأعمال الظاهرة ،كما أن القصد التام مع القدرة يستلزم وجود المراد،و أنه يمتنع مقام الإيمان الواجب في القلب من غير ظهور موجب ذلك و مقتضاه ،زالت الشبهة العلمية في هذه المسألة،و لم يبق إلا نزاع لفظي في أن موجب الإيمان الباطن هل هو جزء منه داخل في مسماه ...)) اهـ
و قال الإيمان الأوسط ص 74- 75 :
((و إن قلت ما هو حقيقة قول جهم و أتباعه من أنه قد يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر ،و ترك جميع الواجبات الظاهرة قيل لك:فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له و موجب له،بل إن حقيقة قولك إن الظاهر يقارن الباطن و يفارقه أخرى فليس بلازم له و لا موجب و معلول له و لكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن،و إذا عدم لم يدل عدمه على العدم و هذا حقيقة قولك و هو أيضا خطأ عقلا كما هو خطأ شرعا .)) اهـ
قلت-أبو مصعب- : فها أنت ترى الإمام ابن تيمية عد حقيقة قول جهم : دعوى إمكانية استقرار الإيمان الواجب مع ترك جيمع الواجبات الظاهرة ، و تأمل كلامه رحمه الله،في دعواهم مقارنة الظاهر للباطن و إمكانية الثاني-الباطن- مع تخلف الأول !! فهذا حقيقة قولهم -الجهمية- و قول أصحابنا!! فتنبه للموافقة من هذا الوجه .كما نضيف أيضا :إن ترك العمل الظاهر-مع و جوب ذلك و القدرة- إظهار للكفر بلا ريب على ما تقرر من تلازم الظاهر و الباطن فافهم ولا تكن من الغافلين.
و ذكر أيضا معددا غلطاتهم ص 76 - 77
''((و رابعها :أنهم جعلوا من لم يتكلم بالإيمان قط مع قدرته على ذلك،و لا أطاع الله طاعة ظاهرة مع وجوب ذلك عليه و قدرته عليه قد يكون مؤمنا بالله تام الإيمان،سعيدا في الدار الآخرة،و هذه الفضائح تختص بها الجهمية دون المرجئة من الفقهاء و غيرهم..))اهـ
و أقول:القول الذي يدندن حوله أصحابنا أخف من جهة تأثيمهم، و قولهم بنقص إيمان تارك العمل الظاهر،و لكنهم يدعون نجاته،و سعادته و لو بعد حين كحال أصحاب الكبائر!! كما يقول رائد العراقي-أحد الدعاة إلى الإرجاء الغالي- في (نصب الراية) معلقا على كلام للحافظ ابن رجب ص82:
(إذن فالذين يخرجون في آخر فوج لم يعملوا بقلوبهم و جوارحهم زائدا عن أصل الإيمان القلبي و أصل التوحيد!! )
فرجع الإيمان الواجب عنده لأصل التصديق فقط و هذا عين مذهب غلاة المرجئة الجهمية .
((و هذه الفضائح تختص بها الجهمية دون المرجئة من الفقهاء و غيرهم..))اهـ و الله المستعان
و قال ص 92 في معرض حديثه عن تارك الصلاة
((فهذا موضع ينبغي تدبره،فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب،و اعلم أن من قال من الفقهاء :إنه إذا أقر بالوجوب،و امتنع عن الفعل،لا يقتل أو يقتل مع إسلامه،فإنه دخلت عليه شبهة المرجئة و الجهمية،و التي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل.)) اهـ
((و من قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات ،سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما للإيمان أو جزءا منه فهذا نزاع لفظي ،كان مخطئا خطأ بينا ،و هذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف و الأئمة الكلام في أهلها و قالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف و الصلاة فهي أعظمها و أعمها و أولها و آخرهاو أولها و أجلها )) اهـ ص 99
(( فَمَنْ لَمْ يَشْفِهِ الْقُرْآنُ , وَلَمْ تَنْفَعْهُ السُّنَّةُ وَمَا فِيهِمَا مِنَ النُّورِ وَالْبَيَانِ وَالْهُدَى وَالضِّيَاءِ , وَتَنَطَّعَ وَتَعَمَّقَ , وَقَالَ بِرَأْيِهِ , وَقَاسَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ بِفِعْلِهِ وَهَوَاهُ دَاخَلَ اللَّهَ فِي عَمَلِهِ , وَنَازَعَهُ فِي غَيْبِهِ , وَلَمْ يَقْنَعْ بِمَا كَشَفَ لَهُ عَنْهُ , حَتَّى خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ , وَخَرَقَ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ , وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا , وَخَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا , وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ , وَوَلَّاهَ اللَّهُ مَا تَوَلَّى , وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ , وَسَاءَتْ مَصِيرًا )) أ.هـ الإبانة الكبرى للإمام بن بطة العكبري
يتبع .. .
((فَالْأَعْمَالُ بِالْجَوَارِحِ تَصْدِيقٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقِ الْإِيمَانَ بِعَمَلِهِ بِجَوَارِحِهِ مِثْلِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَأَشْبَاهٍ لِهَذِهِ، وَمَنْ رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَلَمْ تَنْفَعْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْقَوْلُ، وَكَانَ لِلْعَمَلِ تَكْذِيبًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، وَكَانَ الْعِلْمُ بِمَا ذَكَرْنَا تَصْدِيقًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، فَاعْلَمْ ذَلِكَ هَذَا مَذْهَبُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَهُوَ مُرْجِئٌ خَبِيثٌ، احْذَرْهُ عَلَى دِينِكَ)) أ.هـ الأربعين حديثا للإمام الآجري ط أضواء السلف
(( فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ وَأَحْكَامِهِ وَفَرَائِضِهِ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ , وَأَنَّ التَّارِكَ لَهَا وَالْمُتَثَاقِلَ عَنْهَا مُؤْمِنٌ , فَقَدَ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ , وَخَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ , وَنَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ , وَنَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ )) أ.هـ
(( وَمَنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَقَالَهُ بِلِسَانِهِ , ثُمَّ تَرَكَهُ تَهَاوُنًا وَمُجُونًا أَوْ مُعْتَقِدًا لَرَأْيِ الْمُرْجِئَةِ وَمُتَّبِعًا لِمَذَاهِبِهِمْ , فَهُوَ تَارِكُ الْإِيمَانِ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِنْهُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ وَهُوَ فِي جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ نَافَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِوَصْفِهِمْ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ , وَإِنَّهُمْ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، نَسْتَجِيرُ بِاللَّهِ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُرْجِئَةِ الضَّالَّةِ )) أ.هـ الإبانة الكبرى للإمام ابن بطة العكبري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و لا عدوان إلا على الظالمين و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي فرض الإيمان على القلب و اللسان و الجوارح مجتمعين، و الصلاة و السلام على سيد الأنبياء و المرسلين نبينا محمد و على آله و صحبه و التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد : فقد يسر الله جل و علا في المقال السابق نقض الشبهات التي أثيرت حول إجماع صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم في كفر تارك الصلاة و أتينا على بنيانها من القواعد و لم نسمع للمخالف ركزا و همسا،و قد كان الغرض من وراء التشكيك في هذا الإجماع التوصل إلى تصحيح الخلاف في ما أجمع عليه السلف من (( أَنَّ الَّذِيَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، ... ))
و (( أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِيمَانٌ بِاللِّسَانِ، وَحَتَّى يَكُونَ مَعَهُ نُطْقٌ، وَلَا تُجْزِئُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَالنُّطْقِ بِاللِّسَانِ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ عَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ ))
إذ :((فَالْأَعْمَالُ بِالْجَوَارِحِ تَصْدِيقٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقِ الْإِيمَانَ بِعَمَلِهِ بِجَوَارِحِهِ مِثْلِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَأَشْبَاهٍ لِهَذِهِ، وَمَنْ رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَلَمْ تَنْفَعْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْقَوْلُ، وَكَانَ لِلْعَمَلِ تَكْذِيبًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، وَكَانَ الْعِلْمُ بِمَا ذَكَرْنَا تَصْدِيقًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، فَاعْلَمْ ذَلِكَ هَذَا مَذْهَبُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَهُوَ مُرْجِئٌ خَبِيثٌ، احْذَرْهُ عَلَى دِينِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دَيْنُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5 ] )) أ.هـ الأربعين حديثا للإمام الآجري ط أضواء السلف
و قد استعنت الله تعالى في تكملة الرد على شبهات المرجئة عسى الله أن يحشرنا في جملة من ينفون عن دينه تحريف الغالين و انتحال المبطلين و تمويه المرجئة الضالين و حسبنا الله و نعم الوكيل .
و قد انتظم هذا البحث في :
1- تقرير مذهب أهل السنة المحضة في مسمى الإيمان
2- أقوال بعض أهل العلم في لزوم اجتماع أركان الإيمان الثلاثة في مسمى الإيمان ،و أن قول القائل بنجاة تارك أعمال الجوارح مذهب أهل البدع من المرجئة و الجهمية
3- تلازم الظاهر و الباطن عند السلف
4- شبهات و أغلاط المرجئة من كلام الإمام ابن تيمية
مذهب أهل السنة المحضة في مسمى الإيمان
ممن حكى الإجماع على قول السلف في الإيمان و أن أركانه لا تنفع إلا مجتمعة :الشافعي رحمه الله ،كما ذكر الآجري في (الشريعة ) و شيخ الإسلام (الإيمان الأوسط ط مؤسسة الرسالة ) :
((و كان كل من الطائفتين بعد السلف و الجماعة و أهل الحديث متناقضين،حيث قالوا:الإيمان قول و عمل و قالوا مع ذلك لا يزول بزوال بعض الأعمال،حتى إن ابن الخطيب و أمثاله جعلوا الشافعي متناقضا في ذلك،فإن الشافعي كان من أئمة السنة و له في الرد على المرجئة كلام مشهور،وقد ذكر في كتاب الطهارة من (الأم) إجماع الصحابة و التابعين و تابعيهم على قول أهل السنة''..)) اهـ الأوسط ص 36
وقال أيضا :
(( ولهذا كان القول :إن الإيمان قول و عمل عند أهل السنة ،و من شعائر أهل السنة و حكى غير واحد الإجماع على ذلك ،و قد ذكرنا عن الشافعي رضي الله عنه ما ذكره من الإجماع على ذلك قوله في ((الأم)) : وكان الإجماع من الصحابة، والتابعين من بعدهم, ومن أدركناهم يقولون :الإيمان : قول وعمل ونية ؛ لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر )) .اهـ الإيمان الكبير ص241 ت الألباني .
فالإيمان عند أهل السنة إذا: قول و عمل ،يزيد بالطاعة،و ينقص بالمعصية، و يجوز الاستثناء فيه على سبيل الموافاة والكمال،فالقول المطلق يشمل قول القلب و اللسان،و العمل المطلق يشمل عمل القلب و الجوارح و الكل لازم–مع القدرة و التمكن- سواء لتحقيق الإيمان الواجب أو الكامل المطلق،
قال الإمام أبو بكر الآجري رحمه الله :
(( حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ: فَقُلْتُ لِهِشَامٍ: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: " الْإِيمَانُ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ " وَكَانَ مُحَمَّدٌ الطَّائِفِيُّ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ» . قَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ: وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ» قَالَ يَحْيَى: وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ» ، قَالَ: وَكَانَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ))
((فَالْأَعْمَالُ رَحِمَكُمُ اللَّهُ بِالْجَوَارِحِ: تَصْدِيقٌ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقِ الْإِيمَانَ بِعَمَلِهِ وَبِجَوَارِحِهِ: مِثْلُ الطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَأَشْبَاهٌ لِهَذِهِ وَرَضِيَ مِنْ نَفْسِهِ بِالْمَعْرَفِةِ وَالْقَوْلِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْقَوْلُ، وَكَانَ تَرْكُهُ لِلْعَمَلِ تَكْذِيبًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، وَكَانَ الْعَمَلُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ تَصْدِيقًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ))
و قال شيخ الاسلام شارحا قول السلف في هذا (الإيمان الأوسط ص 33- 34 )
(( فقول السلف يتضمن القول و العمل،الباطن و الظاهر،لكن لما كان بعض الناس قد لا يفهم دخول النية في ذلك قال بعضهم:و نية ،ثم بين آخرون أن مطلق القول و العمل و النية لا يكون مقبولا إلا بموافقة السنة،و هذا حق أيضا،فإن أولئك قالوا : قول و عمل لاشتماله على الجنس و لم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال و الأعمال،و كذلك قول من قال:اعتقاد بالقلب و قول باللسان،و عمل بالجوارح،جعل القول اسما لما يظهر فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب و لا بد أن يدخل في قوله اعتقاد القلب أعمال القلب المقارنة لتصديقه مثل حب الله و خشية الله و التوكل على الله،و نحو ذلك،فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها)) اهـ
قلت : فقوله رحمه الله:(( فإن أولئك قالوا :قول و عمل لاشتماله على الجنس و لم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال و الأعمال)) صريح في لزوم أركان الإيمان الثلاثة القول باللسان و الاعتقاد و عمل القلب و الجوارح-مع القدرة- لتحقيق الإيمان الواجب و قد بين رحمه الله أن المراد منها : جنس القول و العمل،و هذا ظاهر كلامه،على أننا نذكر: إن إطلاق شيخ الاسلام عمل القلب دون الجوارح أحيانا،يدل بطريق اللزوم على أعمال الجوارح فهما أمران متلازمان عنده كما سيأتي،و عليه فلا مستمسك للمخالف بنصوص يوهم ظاهرها تحقق مطلق الإيمان بدون شيء من العمل الظاهر مع القدرة و الله الموفق .
التلازم بين الظاهر و الباطن عند أهل السنة
إن مما يعين على فهم مذهب السلف الصالح و تحرير مذهبهم في مسألة الإيمان والكفر ضبط هذه القاعدة الأصيلة التي دل عليها كتاب الله عز و جل و سنة رسوله، و العقل السليم من الشبهات،فالظاهر عنوان الباطن و مترجم لما ينطوي عليه و أهل العلم مطبقون على هذا الأصل إذ الأحكام الدنيوية مبنية على الظاهر،فالمنافق إذا أظهر نفاقه حكم بردته و لم ينفعه دعواه الإيمان و كذلك أهل الشرك من القبوريين أو عباد الأموات و ما دخلت على مرجئة عصرنا شبهة إعذار الجاهل بالتوحيد إلا لعدم ضبطهم لأصول أهل السنة في باب الأسماء و الأحكام و الله المستعان .
و من ثمرات هذه القاعدة أن الكفر عند أهل السنة يكون بالفعل كما يكون بالقول و الاعتقاد أو الشك،و من شبه الجهمية في هذا الباب دعواهم إمكان إظهار ما هو كفر كسب الله أو الرسول أو غيرها من المكفرات مع ثبوت إيمان من قام به هذا الوصف !! و قد فند هذه الشبهة شيخ الاسلام في مواضع كثيرة من كتبه كالصارم المسلول و الإيمان الكبير ...
يقول شيخ الاسلام مبينا هذا الأصل،و مقررا له:الإيمان الأوسط ص 60
((و المرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا ،و جعلها هي التصديق فهذا ضلال بين ،و من قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم :العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه ،و انتفاء الظاهر دليل على انتفاء الباطن ))
(( وقال : و متى حصل له هذا الإيمان،وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان و الصلاة و الصيام و الحج،لأن إيمانه بالله و ملائكته و رسله يقتضي الاستسلام لله و الانقياد له،و إلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار و الحب و الانقياد باطنا و لا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون و جود المراد ))
(( و قيل لمن قال دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز نزاعك لفظي ،فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب و موجباته كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم،فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا.. )) ص 74
و قال رحمه الله ص 61
(( و السلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان ... و أيضا فإخراجهم العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضا و هذا باطل قطعا ،فإن من صدق السول و أبعضه و عاداه بقلبه و بدنه فهو كافر قطعا بالضرورة ،و إن أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطأوا أيضا لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن. .)) اهـ
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: (الصلاة و حكم تاركها ط دار الكتب العلمية ص 19 )
((و هذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة و لا ترك معصية،و نحن نقول الإيمان هو التصديق و لكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له،ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيمانا لكان إبليس و فرعون و قومه و قوم صالح و اليهود الذين عرفوا أن محمدا رسول الله كما يغرفون آباءهم مؤمنين مصدقين..)) اهـ
و قال رحمه ص 24
(( و هاهنا أصل آخر،و هو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول و عمل و القول قسمان :قول القلب و هو الاعتقاد،و قول اللسان و هو التكلم بكلمة الإسلام.و العمل قسمان:عمل القلب و هو نيته و إخلاصه،و عمل الجوارح ...
و إذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب ،فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح،و لا سيما إذا كان ملزوما لعدم محبة القلب و انقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم،كما تقدم تقريره،فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح،إذا لو أطاع القلب انقاد أطاعت الجوارح و انقادت،و يلزم من عدمه طاعته و انقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة و هو حقيقة الإيمان.فإن الإيمان ليس مجرد التصديق –كما تقدم بيانه-و إنما هو التصديق المستلزم للطاعة و الانقياد...)) اهـ
و قال العلامة الشيخ حافظ حكمي رحمه الله مشيرا إلى هذا التقرير: (معارج القبول ج2/ص19 ط دار ابن رجب ت الأزهري )
((و محال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب،قال النبي صلى الله عليه و سلم:((إن في الجسد مضغة إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب)) .و من هنا يتبين لك قول من قال من أهل السنة في الإيمان هو التصديق على ظاهر اللغة ،أنهم عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهرا و باطنا بلا شك ،لم يعنوا مجرد التصديق ...)) اهـ
قلت : بهذا التأصل يتبين خطأ المرجئة المعاصرين الذين يحملون نصوص بعض الأئمة التي يوحي ظاهرها أن عمل القلب وحده مجزئ في تحقيق الإيمان المنجي الواجب،أو اعتباره موضع الخلاف مع المرجئة ! و كيف يسلم لهم هذا و هؤلاء العلماء يقررون-كما سبق- تلازم الظاهر و الباطن، و علاقتهما الوثيقة،كما نضيف إلى هذا: إن هؤلاء ممن يكفر بترك الصلاة فكيف ينسب إليهم القول بنجاة تارك الأعمال بالكلية !؟
أقوال بعض أهل العلم في لزوم اجتماع أركان الإيمان الثلاثة في مسمى الإيمان
الإمام محمد بن الحسين الآجري (ت 360) ( الشريعة ج1/ ص 274-275 -277- 278-280-284-288-289 ط مؤسسة قرطبة ت الوليد النصر )
(( بَابُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا، إِلَّا أَنْ تَجْتَمِعَ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثُ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: اعْمَلُوا رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ أَنَّ الَّذِيَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَهُوَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، ثُمَّ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ وَالتَّصْدِيقٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ بِاللِّسَانِ نُطْقًا، وَلَا تُجْزِيءُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ، حَتَّى يَكُونَ عَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، فَإِذَا كَمُلَتْ فِيهِ هَذِهِ الثَّلَاثُ الْخِصَالِ: كَانَ مُؤْمِنًا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ، وَالسُّنَّةُ، وَقَوْلُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ: فَأَمَّا مَا لَزِمَ الْقَلْبَ مِنْ فَرْضِ الْإِيمَانِ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)) أ.هـ
(( وَأَخْبَرَنَا أَيْضًا خَلَفُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ: عَنِ الْإِيمَانِ؟ فَقَالَ: «قَوْلٌ وَعَمَلٌ» وَسَأَلْتُ ابْنَ الْجَرِيحِ، فَقَالَ: «قَوْلٌ وَعَمَلٌ» وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، فَقَالَ: «قَوْلٌ وَعَمَلٌ» , وَسَأَلْتُ نَافِعَ بْنَ عُمَرَ الْجُمَحِيَّ، فَقَالَ: «قَوْلٌ وَعَمَلٌ» ، وَسَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، فَقَالَ: «قَوْلٌ وَعَمَلٌ» وَسَأَلْتُ فُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ، فَقَالَ: «قَوْلٌ وَعَمَلٌ» وَسَأَلْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ، فَقَالَ: «قَوْلٌ وَعَمَلٌ» ، قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: وَسَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ: " أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ، وَالْجَهْمَيَّةُ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ الْمَعْرِفَةُ )) أ.هـ
(( حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ: فَقُلْتُ لِهِشَامٍ: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: " الْإِيمَانُ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ " وَكَانَ مُحَمَّدٌ الطَّائِفِيُّ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ» . قَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ: وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ» قَالَ يَحْيَى: وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ» ، قَالَ: وَكَانَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ))
((فَالْأَعْمَالُ رَحِمَكُمُ اللَّهُ بِالْجَوَارِحِ: تَصْدِيقٌ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقِ الْإِيمَانَ بِعَمَلِهِ وَبِجَوَارِحِهِ: مِثْلُ الطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَأَشْبَاهٌ لِهَذِهِ وَرَضِيَ مِنْ نَفْسِهِ بِالْمَعْرَفِةِ وَالْقَوْلِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْقَوْلُ، وَكَانَ تَرْكُهُ لِلْعَمَلِ تَكْذِيبًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، وَكَانَ الْعَمَلُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ تَصْدِيقًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ))
((وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهَمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ شَرَائِعَ الْإِيمَانِ أَنَّهَا عَلَى هَذَا النَّعْتِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَبَيَّنْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافَ مَا قَالَتِ الْمُرْجِئَةُ، الَّذِينَ لَعِبَ بِهِمُ الشَّيْطَانُ ))
((قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: اعْلَمُوا رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، وَيَا أَهْلَ الْعِلْمِ، وَيَا أَهْلَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ، وَيَا مَعْشَرَ مَنْ فَقَّهَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدِّينِ، بِعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَنَّكُمْ إِنْ تَدَبَّرْتُمُ الْقُرْآنَ، كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَبِرَسُولِهِ: الْعَمَلَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُثْنِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ قَدْ رَضُوا عَنْهُ وَأَثَابَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الدُّخُولَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ، إِلَّا الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَقَرَنَ مَعَ الْإِيمَانِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، لَمْ يُدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ، حَتَّى ضَمَّ إِلَيْهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، الَّذِي قَدْ وَفَّقَهُمْ لَهُ، فَصَارَ الْإِيمَانُ لَا يَتِمُّ لِأَحَدٍ حَتَّى يَكُونَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ، وَنَاطِقًا بِلِسَانِهِ، وَعَامِلًا بِجَوَارِحِهِ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَتَصَفَّحَهُ، وَجَدَهُ كَمَا ذَكَرْتُ وَاعْلَمُوا رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكُمْ أَنِّي قَدْ تَصَفَّحْتُ الْقُرْآنَ فَوَجَدْتُ فِيهِ مَا ذَكَرْتُهُ فِي سِتَّةٍ وَخَمْسِينَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُدْخِلِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ، بَلْ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَبِمَا وَفَقَّهُمْ لَهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ: الْمَعْرِفَةُ , وَرَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: الْمَعْرِفَةُ وَالْقَوْلُ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ قَائِلِ هَذَا )) أ.هـ
((قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: مَيِّزُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ قَوْلَ مَوْلَاكُمُ الْكَرِيمِ: هَلْ ذَكَرَ الْإِيمَانَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا وَقَدْ قَرَنَ إِلَيْهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ؟ وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] فَأَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ حَقِيقَةٌ أَنْ يُرْفَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَمَلِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ بَطَلَ الْكَلَامُ مِنْ قَائِلِهِ، وَرُدَّ عَلَيْهِ، وَلَا كَلَامٌ طَيِّبٌ أَجَلَّ مِنَ التَّوْحِيدِ وَلَا عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ أَجَلَّ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ ))
(( قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتَّقِينَ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْهُ، وَدُخُولَهَمُ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ يَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ لَوْ جَمَعْتُهُ , مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الزُّخْرُفِ {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] إِلَى قَوْلِهِ {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] وَمِثْلَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ ق، وَالذَّارِيَاتِ، وَالطُّورِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ، فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ..
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: كُلُّ هَذَا يَدُلُّ الْعَاقِلَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ، وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ، كَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ، وَأَنَا بَعْدَ هَذَا أَذْكُرُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَنْ كَثِيرٍ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ عِنْدَهُمْ بِهَذَا فَقَدْ كَفَرَ )) أ.هـ
و قال رحمه الله في كتابه ( الأربعبن حديثا للآجري ط أضواء السلف ص 110-113):
((12- حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ , قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنُ سُكَيْنٍ الْبَلْدِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ صَالِحٍ الْخُرَاسَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الرِّضَا عَلِيُّ بْنُ مُوسَى عَنْ أَبِيه مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ، وَيَقِينٌ بِالْقَلْبِ»
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْإِيمَانِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يُخَالِفُ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا مُرْجِئٌ خَبِيثٌ مَهْجُورٌ مَطْعُونٌ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ، وَأَنَا أُبَيِّنُ مَعْنَى هَذَا لِيَعْلَمَهُ جَمِيعُ مَنْ نَظَرَ فِيهِ نَصِيحَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. اعْلَمُوا رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ أَنَّ الَّذِيَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، ثُمَّ اعْلَمُوا رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِيمَانٌ بِاللِّسَانِ، وَحَتَّى يَكُونَ مَعَهُ نُطْقٌ، وَلَا تُجْزِئُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَالنُّطْقِ بِاللِّسَانِ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ عَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، فَإِذَا كَمُلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثَةُ كَانَ مُؤْمِنًا وَحَقًّا، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَقَوْلُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا مَا لَزِمَ الْقَلْبَ مِنْ فَرْضِ الْإِيمَانِ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41] إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114] ....
.... فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ عَلَى الْقَلْبِ فَرْضَ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْمَعْرِفَةُ، وَلَا يَنْفَعُ الْقَوْلُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَلْبُ مُصَدِّقًا بِمَا يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ مَعَ الْعَمَلِ، وَأَمَّا فَرْضُ الْإِيمَانِ بِاللِّسَانِ فَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، وَالْأَسْبَاطِ، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى، وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ، مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} الْآيَةَ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} الْآيَةَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ. . .» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَهَذَا الْإِيمَانُ بِاللِّسَانِ نُطْقًا وَاجِبًا، وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْجَوَارِحِ تَصْدِيقًا لِمَا آمَنَ بِهِ الْقَلْبُ وَنَطَقَ بِهِ اللِّسَانُ، فَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمِثْلُهُ فَرْضُ الصِّيَامِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَمِثْلُهُ فَرْضُ الْحَجِّ، وَفَرْضُ الْجِهَادِ عَلَى الْبَدَنِ بِجَمِيعِ الْجَوَارِحِ، فَالْأَعْمَالُ بِالْجَوَارِحِ تَصْدِيقٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقِ الْإِيمَانَ بِعَمَلِهِ بِجَوَارِحِهِ مِثْلِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَأَشْبَاهٍ لِهَذِهِ، وَمَنْ رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَلَمْ تَنْفَعْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْقَوْلُ، وَكَانَ لِلْعَمَلِ تَكْذِيبًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، وَكَانَ الْعِلْمُ بِمَا ذَكَرْنَا تَصْدِيقًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ، فَاعْلَمْ ذَلِكَ هَذَا مَذْهَبُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَهُوَ مُرْجِئٌ خَبِيثٌ، احْذَرْهُ عَلَى دِينِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دَيْنُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5 ] )) أ.هـ
قال الإمام ابن بطة العكبري الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (ج1/ ص314 -315 -317 -321 -322 -323 -324 -325 -329 -330 -331 -333 -334 .. ط دار الكتب العلمية )
[ بَابُ بَيَانِ الْإِيمَانِ وَفَرْضِهِ وَأَنَّهُ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ وَالْحَرَكَاتِ، لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُؤْمِنًا إِلَّا بِهَذِهِ الثَّلَاثِ ]
((فَكُلُّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ أَوْ أَكَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُنَّتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْجُحُودِ لَهَا وَالتَّكْذِيبِ بِهَا , فَهُوَ كَافِرٌ بَيِّنُ الْكُفْرِ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ عَاقِلٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَمَنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَقَالَهُ بِلِسَانِهِ , ثُمَّ تَرَكَهُ تَهَاوُنًا وَمُجُونًا أَوْ مُعْتَقِدًا لَرَأْيِ الْمُرْجِئَةِ وَمُتَّبِعًا لِمَذَاهِبِهِمْ , فَهُوَ تَارِكُ الْإِيمَانِ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِنْهُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ وَهُوَ فِي جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ نَافَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِوَصْفِهِمْ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ , وَإِنَّهُمْ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، نَسْتَجِيرُ بِاللَّهِ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُرْجِئَةِ الضَّالَّةِ )) أ.هـ
((َ اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ جَلَّ لَمْ يُثْنِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَلَمْ يَصِفْ مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ , وَالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ , وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ بِرِضَاهُ عَنْهُمْ إِلَّا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ , وَالسَّعْيِ الرَّابِحِ , وَقَرَنَ الْقَوْلَ بِالْعَمَلِ , وَالنِّيَّةَ بِالْإِخْلَاصِ , حَتَّى صَارَ اسْمُ الْإِيمَانِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ لَا يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ , وَلَا يَنْفَعُ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ , حَتَّى صَارَ الْإِيمَانُ قَوْلًا بِاللِّسَانِ , وَعَمَلًا بِالْجَوَارِحِ , وَمَعْرِفَةً بِالْقَلْبِ خِلَافًا لِقَوْلِ الْمُرْجِئَةِ الضَّالَّةِ الَّذِينَ زَاغَتْ قُلُوبُهُمْ , وَتَلَاعَبَتِ الشَّيَاطِينُ بِعُقُولِهِمْ , وَذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِهِ , وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُنَّتِهِ )) أ.هـ
(( فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُقِرُّ بِالْفَرَائِضِ وَلَا يُؤَدِّيهَا وَيَعْلَمُهَا , وَبِتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَلَا يَنْزَجِرُ عَنْهَا وَلَا يَتْرُكُهَا , وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ , فَقَدْ كَذَّبَ بِالْكِتَابِ , وَبِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ , وَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41 ]
فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ , وَسَمَّاهُمْ مُنَافِقِينَ , مَأْوَاهُمُ الدَّرْكُ الْأَسْفَلُ مِنَ النَّارِ. عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمُرْجِئَةِ , لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ جَحَدُوا الْعَمَلَ وَعَمَلُوهُ , وَالْمُرْجِئَةُ أَقَرُّوا بِالْعَمَلِ بِقَوْلِهِمْ وَجَحَدُوهُ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ , فَمَنْ جَحَدَ شَيْئًا , وَأَقَرَّ بِهِ بِلِسَانِهِ وَعَمَلَهُ بِبَدَنِهِ أَحْسَنُ حَالًا مِمَّنْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ وَأَبَى أَنْ يَعْمَلَهُ بِبَدَنِهِ , فَالْمُرْجِئَةُ جَاحِدُونَ لِمَا هُمْ بِهِ مُقِرُّونَ , وَمُكَذِّبُونَ بِمَا هُمْ بِهِ مُصَدِّقُونَ، فَهُمْ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَيْحَ لِمَنْ لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ دَلِيلَهُ , فَمَا أَضَلَّ سَبِيلَهُ , وَأَكْسَفَ بَالَهُ , وَأَسْوَأَ حَالَهُ.)) أ.هـ
((فَتَأَمَّلُوا هَذَا الْخَطَّابَ , وَاعْقِلُوا عَنْ مَوْلَاكُمْ , وَاعْرِفُوا السَّبَبَ الَّذِي بِهِ أَعَدَّ اللَّهُ الْخَيْرَاتِ , وَالْجَنَّاتِ هَلْ تَجِدُونَهُ غَيْرَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ , وَلَقَدْ آمَنَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ , وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ , وَآتَوُا الزَّكَاةَ , وَصَدَّقُوا التَّنْزِيلَ , وَاتَّبَعُوا الرَّسُولَ فَاسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ , وَمَيَّزَهُمْ مِنْ أَهْلِ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ , فَقَالَ:
((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا)) [الأنفال: 72]. ثُمَّ ذَكَرَ قَوْمًا آمَنُوا بِمَكَّةَ أَمْكَنَتْهُمُ الْهِجْرَةُ وَقَدَرُوا عَلَيْهَا , فَتَخَلَّفُوا عَنْهَا , فَلَمْ يَدْعُهُمْ بِاسْمِ الْإِيمَانِ , لَكِنْ سَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ , وَقَالَ فِيهِمْ قَوْلًا عَظِيمًا , فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]. وَكُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَا تَدَّعِيهِ الْمُرْجِئَةُ , وَتَذْهَبُ إِلَيْهِ مِنْ إِخْرَاجِهَا الْفَرَائِضَ وَالْأَعْمَالَ مِنَ الْإِيمَانِ , وَتَكْذِيبٌ لَهَا أَنَّ الْفَوَاحِشَ وَالْكَبَائِرَ لَا تَنْقُصُ الْإِيمَانَ , وَلَا تَضُرُّ بِهِ , وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} [يونس: 4]. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9]. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 63 ] )) أ.هـ
((قَالَ الشَّيْخُ: فَقَدْ تَلَوْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا يَدُلُّ الْعُقَلَاءَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ , وَأَنَّ مَنْ صَدَّقَ بِالْقَوْلِ وَتَرَكَ الْعَمَلَ كَانَ مُكَذِّبًا , وَخَارِجًا مِنَ الْإِيمَانِ , وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ قَوْلًا إِلَّا بِعَمَلٍ , وَلَا عَمَلًا إِلَّا بِقَوْلٍ .)) أ.هـ
((وَكَانَ مِمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِمَّا أَعْلَمَنَا أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ , وَأَنَّ الْعَمَلَ مِنَ الْإِيمَانِ مَا قَالَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوْصَافَ الْإِيمَانِ وَشَرَائِطَهُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْإِخْلَاصِ. وَلَقَدْ سَأَلَ أَبُو ذَرٍّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ , فَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ )) أ.هـ
((1070 - حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ , وَأَبُو الْقَاسِمِ مُلَيْحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُلَيْحٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ , قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ , عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , عَنْ بَيَانٍ , عَنِ الشَّعْبِيِّ , قَالَ: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138] قَالَ: «بَيَانٌ مِنَ الْعَمَى , وَهُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ , وَمَوْعِظَةٌ مِنَ الْجَهْلِ» قَالَ الشَّيْخُ: فَأَيُّ عَبْدٍ أَتْعَسُ جَدًا , وَلَا أَعْظَمُ نَكِدًا , وَلَا أَطْوَلُ شَقَاءً وَعَنَاءً مِنْ عَبْدٍ حُرِمَ الْبَصِيرَةَ بِنُورِ الْقُرْآنِ , وَالْهِدَايَةَ بِدَلَالَتِهِ , وَالزَّجْرَ بِمَوْعِظَتِهِ , قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] , وَقَوْلُهُ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ قَالَ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]. فَالْهُدَى هُدَى الْإِيمَانِ وَهُوَ الْقَوْلُ , وَالدِّينُ هُوَ الْعَمَلُ , وَجَمِيعُ الْفَرَائِضِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ , وَمُجَانَبَةُ الْحَرَامِ وَالْآثَامِ. فَالدِّينُ لَيْسَ هُوَ خَصْلَةً وَاحِدَةً , وَلَكِنَّهُ خِصَالٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ مِنْ فَرَائِضَ وَأَحْكَامٍ , وَشَرَائِعَ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ , فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33] يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ , حَتَّى صَارَ دِينًا قِيَمًا , فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ عَمِلَ بِجَمِيعِ مَا فِيهِ , وَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِهِ وَكَفَرَ بِبَعْضِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ. وَمَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ دِينِ الْحَقِّ وَلَا مُؤْمِنٌ وَلَا مُهْتَدٍ , وَلَا عَامِلٌ بِدِينٍ الْحَقِّ , وَلَا قَابِلٌ لَهُ , لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْلَمَنَا أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ بِإِكْمَالِ الْفَرَائِضِ , قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الصِّدْقَ مِنْهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ , وَالْعَمَلَ بِجَمِيعِ مَا افْتَرَضَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ , وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ , وَحَجِّ الْبَيْتِ , وَمَا بَذَلُوهُ مِنْ مُهَجِ أَنْفُسِهِمْ , وَنَفَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ , وَالْخُرُوجِ عَنْ دِيَارِهِمْ , وَهُجْرَانِ آبَائِهِمْ , وَقَطِيعَةِ أَهْلِيهِمْ , وَهُجْرَانِ شَهَوَاتِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ مِمَّا حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ , وَعَلِمَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِمَا زَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِهِمْ , وَحَبَّبَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ وَالْعَمَلِ بِأَوَامِرِهِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ زَوَاجِرِهِ , سَمَّى هَذِهِ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا إِيمَانًا , فَقَالَ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات: 8]. فَاسْتَحَقُّوا اسْمَ الرَّشَادِ بِإِكْمَالِ الدِّينِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي فُسْحَةٍ وَسَعَةٍ , لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ صَلَاةٌ , وَلَا زَكَاةٌ , وَلَا صِيَامٌ , وَلَا كَانَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كَثِيرًا مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ , وَكَانَ اسْمُ الْإِيمَانِ وَاقِعًا عَلَيْهِمْ بِالتَّصْدِيقِ تَرَفُّقًا بِهِمْ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَجَفَائِهَا , فَجَعَلَ الْإِقْرَارَ بِالْأَلْسُنِ وَالْمَعْرِفَةَ بِالْقُلُوبِ الْإِيمَانَ الْمُفْتَرَضَ يَوْمَئِذٍ، حَتَّى إِذَا حَلَّتْ مَذَاقَةُ الْإِيمَانِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ , وَحَسُنَتْ زِينَتُهُ فِي أَعْيُنِهِمْ , وَتَمَكَّنَتْ مَحَبَّتُهُ مِنْ قُلُوبِهِمْ , وَأَشْرَقَتْ أَنْوَارُ لُبْسَتِهِ عَلَيْهِمْ , وَحَسُنَ اسْتِبْصَارُهُمْ فِيهِ , وَعَظُمَتْ فِيهِ رَغْبَتُهُمْ تَوَاتَرَتْ أَوَامِرُهُ فِيهِمْ , وَتَوَكَّدَتْ فَرَائِضُهُ عَلَيْهِمْ , وَاشْتَدَّتْ زَوَاجِرُهُ وَنَوَاهِيهِ. فَكُلَّمَا أَحْدَثَ لَهُمْ فَرِيضَةً عِبَادَةً وَزَاجِرَةً عَنْ مَعْصِيَةٍ ازْدَادُوا إِلَيْهِ مُسَارَعَةً وَلَهُ طَاعَةً , دَعَاهُمْ بِاسْمِ الْإِيمَانِ , وَزَادَهُمْ فِيهِ بَصِيرَةً , فَقَالَ: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78]. وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. . الْآيَةَ. وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] , ثُمَّ قَالَ فِي فَرْضِ الْجِهَادِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]. وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38]. وَنَظَائِرُ لِهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ , وَقَالَ فِي النَّهْيِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران: 130] , وَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] , وَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزَلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] , فَعَلَى هَذَا كُلُّ مُخَاطَبَةٍ , كَانَتْ مِنْهُ لَهُمْ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى , وَأَبَاحَ وَحَظَرَ , وَكَانَ اسْمُ الْإِيمَانِ وَاقِعًا بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فَرْضٌ غَيْرُهُ , فَلَمَّا نَزَلَتِ الشَّرَائِعُ بَعْدَ هَذَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْتِزَامُ فَرْضِهَا , وَالْمُسَارَعَةُ إِلَيْهَا كَوُجُوبِ الْأَوَّلِ سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا , لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , وَبِأَمْرِهِ وَإِيجَابِهِ. وَلَقَدْ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ بِمَكَّةَ , فَصَلَّوْا نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ , فَلَمَّا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ أَقَامُوا بِهَا يُصَلُّونَ نَحْوَهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا , ثُمَّ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ نَحْوَ الْكَعْبَةِ , فَلَوْ لَمْ يُصَلُّوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ كَمَا أُمِرُوا لَمَا أَغْنَى عَنْهُمُ الْإِقْرَارُ الْأَوَّلُ , وَلَا الْإِيمَانُ الْمُتَقَدَّمُ. وَلَقَدْ بَلَغَ بِهِمُ الْإِشْفَاقُ فِي الطَّاعَةِ وَالْمُسَارَعَةُ إِلَيْهَا أَنْ خَافُوا عَلَى مَنْ مَاتَ , وَهُوَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ , حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُرْآنًا أَزَالَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْإِشْفَاقَ , وَأَعْلَمُهُمْ بِهِ أَيْضًا أَنَّ الصَّلَاةَ إِيمَانٌ. فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ))أ.هـ
(( فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ وَأَحْكَامِهِ وَفَرَائِضِهِ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ , وَأَنَّ التَّارِكَ لَهَا وَالْمُتَثَاقِلَ عَنْهَا مُؤْمِنٌ , فَقَدَ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ , وَخَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ , وَنَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ , وَنَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ , قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]. ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 82] , ثُمَّ قَالَ: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83] , ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 82]. )) أ.هـ
(( 1074 - حَدَّثَنَا أَبُو شَيْبَةَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرٍ , قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ , قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ , قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ , عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ , عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. يَقُولُ: «تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ الْإِيمَانِ , وَحَقَّقُوهُ بِالْعَمَلِ» قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: الْإِيمَانُ كَلَامٌ وَحَقِيقَتُهُ الْعَمَلُ , فَإِنْ لَمْ يُحَقِّقِ الْقَوْلَ بِالْعَمَلِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْقَوْلُ. قَالَ الشَّيْخُ: وَحَسْبُكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِآيَةٍ جَمَعَتْ كُلَّ قَوْلٍ طَيِّبٍ , وَكُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ , قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. فَإِنَّهُ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ وَالْإِخْلَاصَ وَالطَّاعَةَ لِعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ , وَالْإِيمَانَ بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ , وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ , فَهَلْ لِلْعِبَادَةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ الْعِبَادَ لَهَا عَمَلٌ غَيْرُ عَمَلٍ مِنَ الْإِيمَانِ , فَالْعِبَادَةُ مِنَ الْإِيمَانِ هِيَ أَوْ مِنْ غَيْرِ الْإِيمَانِ , فَلَوْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ الَّتِي خَلَقَهُمُ اللَّهُ لَهَا قَوْلًا بِغَيْرِ عَمَلٍ لَمَا أَسْمَاهَا عِبَادَةً , وَلَسَمَّاهَا قَوْلًا , وَلَقَالَ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَقُولُونَ , وَلَيْسَ يَشُكُّ الْعُقَلَاءُ أَنَّ الْعِبَادَةَ خِدْمَةٌ , وَأَنَّ الْخِدْمَةَ عَمَلٌ , وَأَنَّ الْعَامِلَ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا عَمَلُهُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ , وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَطَاعَةُ اللَّهِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ وَأَدَاءِ الْفَرَائِضِ , قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هَوُ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]. . الْآيَةَ. فَهَلْ يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ سَمِعَ هَذَا الْخَطَّابَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ نَصُّ الْكِتَابِ أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ قَدِ انْتَظَمَ التَّصْدِيقَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْمَعْرِفَةِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162].
وَقَالَ: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنعام: 71]. وَإِقَامُ الصَّلَاةِ هُوَ الْعَمَلُ , وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ , وَأَمَرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ , فَمَا ظَنُّكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ بِمَنْ يَقُولُ: إِنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 31]. فَجَعَلَ اللَّهُ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُشْرِكًا خَارِجًا مِنَ الْإِيمَانِ , لِأَنَّ هَذَا الْخَطَّابَ لِلْمُؤْمِنِينَ تَحْذِيرٌ لَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا الصَّلَاةَ , فَيَخْرُجُوا مِنَ الْإِيمَانِ , وَيَكُونُوا كَالْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}. فَقَالَ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ , وَأَقَامَ الصَّلَاةَ , وَآتَى الزَّكَاةَ , فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ , فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ لَمْ تَنْفَعْهُ الصَّلَاةُ , وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ لَمْ يَنْفَعْهُ الْإِيمَانُ , وَاسْتَدَلَّ بِمَحَلِّ الصَّلَاةِ مِنَ الْإِيمَانِ وَنُزُولِهَا مِنْهُ بِالذُّرْوَةِ الْعُلْيَا , وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَهَا بِالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ , فَلَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ إِلَّا بِالطَّهَارَةِ , فَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ عِبَادَهُ يَكُونُونَ بِحَيْثُ لَا مَاءَ فِيهِ , وَبِحَالٍ لَا يَقْدِرُونَ مَعَهَا إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ , فَرَضَ عَلَيْهِمُ التَّيَمُّمَ بِالتُّرَابِ عِوَضًا مِنَ الْمَاءِ لِئَلَّا يَجِدَ أَحَدٌ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ مَنْدُوحَةً , وَلَا فِي تَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا رُخْصَةً , وَكَذَلِكَ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةَ فِي حَالِ شِدَّةِ الْخَوْفِ , وَمُبَارَزَةِ الْعَدُوِّ , فَأَمَرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي هُمْ فِيهَا , فَعَلَّمَهُمْ كَيْفَ يُؤَدُّونَهَا , فَهَلْ يَكُونُ أَحَدٌ هُوَ أَعْظَمُ جَهْلًا , وَأَقَلُّ عِلْمًا , وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ , وَأَشَدُّ تَكْذِيبًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَسُنَّةِ الْإِيمَانِ وَشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَرَضَ الصَّلَاةَ , وَجَعَلَ مَحَلَّهَا مِنَ الْإِيمَانِ هَذَا الْمَحِلَّ , وَمَوْضِعَهَا مِنَ الدِّينِ هَذَا الْمَوْضِعَ , وَأَلْزَمَ عِبَادَهُ إِقَامَتَهَا هَذَا الْإِلْزَامَ فِي هَذِهِ الْأَحَايِينِ , وَأَمَرَ بِالْمُحَافَظَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا عَلَى هَذِهِ الشَّدَائِدِ وَالضَّرُورَاتِ , فَيُخَالِفُ ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِ هَوَاهُ وَإِيَثَارِهِ لِرَأْيِهِ الْمُحْدَثِ الَّذِي ضَلَّ بِهِ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ , وَأَضَلَّ بِهِ مَنِ اتَّبَعَهُ فَصَارَ مِمَّنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى , وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ , فَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى , وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ , وَسَاءَتْ مَصِيرًا )) أ.هـ
((قَالَ الشَّيْخُ: فَقَدْ أَنْبَأَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْإِيمَانِ بِدَلَالَاتِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَتَصْدِيقٌ وَيَقِينٌ , وَأَنَّ جَمِيعَ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ وَالرَّيْبِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ , وَالْبُرْهَانِ , وَالْحَقِّ الْمُبِينِ , وَلَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَهُ شِفَاءً وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ: {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]. فَمَنْ لَمْ يَشْفِهِ الْقُرْآنُ , وَلَمْ تَنْفَعْهُ السُّنَّةُ وَمَا فِيهِمَا مِنَ النُّورِ وَالْبَيَانِ وَالْهُدَى وَالضِّيَاءِ , وَتَنَطَّعَ وَتَعَمَّقَ , وَقَالَ بِرَأْيِهِ , وَقَاسَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ بِفِعْلِهِ وَهَوَاهُ دَاخَلَ اللَّهَ فِي عَمَلِهِ , وَنَازَعَهُ فِي غَيْبِهِ , وَلَمْ يَقْنَعْ بِمَا كَشَفَ لَهُ عَنْهُ , حَتَّى خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ , وَخَرَقَ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ , وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا , وَخَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا , وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ , وَوَلَّاهَ اللَّهُ مَا تَوَلَّى , وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ , وَسَاءَتْ مَصِيرًا )) أ.هـ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :(شرح العمدة ص 86/ج2 ط دار العاصمة )
((فإن الإيمان عند أهل السنة و الجماعة قول و عمل كما دل عليه الكتاب و السنة،و أجمع عليه السلف على ما هو مقرر في موضعه ،فالقول تصديق الرسول ،و العمل تصديق القول فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا .)) اهـ
قال رحمه الله الإيمان الأوسط ط الرسالة ص 61
((و السلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان ... و أيضا فإخراجهم العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضا و هذا باطل قطعا ،فإن من صدق الرسول و أبغضه و عاداه بقلبه و بدنه فهو كافر قطعا بالضرورة ،و إن أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطأوا أيضا لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن )) اهـ
((و من الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه ،بأن الله فرض عليه الصلوات و الزكاة و الصيام و الحج ،و يعيش دهره لا يسجد لله سجدة و لا يصوم يوما من رمضان و لا يؤدي لله زكاة و لا يحج إلى بيته ،و لا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب و زندقة لا مع إيمان صحيح.)) ص93
و قال الشيخ الإمام محمد بن عبدالو هاب في كشف الشبهات و الدرر السنية) :
(( لا خلاف بين الأمة أن التوحيد : لا بد أن يكون بالقلب الذي هو العلم , واللسان الذي هو القول , والعمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي ؛ فإن أخلَّ بشيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً )) أ.هـ
و قال العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن :
((هذا ما دل عليه كلام شيخنا في ((كشف الشبهات)) و هذا مجمع عليه بين أهل العلم فإن اختل أحد هذه الثلاثة اختل الإسلام و بطل كما دل عليه حديث جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه و على آله و سلم عن الإسلام و الإحسان فبدأفي تعريف الإسلام بالشهادتين ،و لا شك أن العلم و القول و العمل مشترط في صحة الإتيان بهما ،و هذا لا يخفى على أحد شم رائحة العلم و إنما خالف في الخوارج فيما دون ذلك من ظلم العبد لنفسه و ظلمه لغيره من الناس ....و المعترض جاهل لا يفرق بين مسائل الإجماع و مسائل النزاع . )) اهـ مصباح الظلام ص 467 ت عبد العزيز آل زايد.
و قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن (فتح المجيد ط12 دار الأثير 46-65-69 باب فضل التوحيد و ما يكفر من الذنوب )
(( قوله : « من شهد أن لا إله إلا الله » أي : من تكلم بها عارفا لمعناها ، عاملا بمقتضاها ، باطنا وظاهرا ، فلا بد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولهما ، كما قال الله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } . . . ( محمد ـ 19 ) وقوله : . . . { إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ( الزخرف ـ 86 ) أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه : من البراءة من الشرك ، وإخلاص القول والعمل : قول القلب واللسان ، وعمل القلب والجوارح - فغير نافع بالإجماع ...
و قال رحمه الله :
(( وقال البقاعي : " لا إله إلا الله " ، أي : انتفاء عظيما أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم ، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة ، وإنما يكون علما إذا كان نافعا ، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه ، وإلا فهو جهل صرف ...
فدلت ( لا إله إلا الله ) على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائنا ما كان، و إثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه ، وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره ، كما قال تعالى عن الجن : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا }{ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا } ( الجن ـ 1 - 2 ) فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيا وإثباتا ، واعتقد ذلك وقبله وعمل به . وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل ، فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف ، فهي حجة عليه بلا ريب )) أ.هـ
أغلاط المرجئة و الجهمية من كلام شيخ الاسلام
وقبل أن أسوق كلام شيخ الاسلام بهذا الصدد ،أحببت الإشارة لتقرير مهم ذكره العلامة الشيخ صالح آل الشيخ حقق فيه خلاف أهل السنة و مرجئة الفقهاء في المسألة هذه،كما أشار فيه حفظه الله إلى التقرير الآتي :
(شريط:أسئلة في الإيمان و الكفر السؤال الثالث ) :)
س: من أخرج العمل عن مسمى الإيمان... لكن قالوا العمل ثمرة وليس من مسمى الإيمان، هل الخلاف بيننا حقيقي؟
ج: الخلاف بيننا وبينة مرجئة الفقهاء حقيقي وليس لفظيا ولا صوريا ولا شكليا
ومن حيث التنظير لا من حيث الواقع الفرق بيننا وبينهم أنه عندهم يُتصور أن يعتقد أحد الاعتقاد الحق الصحيح ويقول كلمة التوحيد ينطق بها ويترك جنس العمل؛ يعني لا يعمل عملا أبدا امتثالا لأمر الشرع، ولا يترك منهيا امتثالا لأمر الشرع، هذا عندهم مسلم مؤمن ولم لم يعمل البتة، وعندنا ليس بمسلم ولا بمؤمن حتى يكون عنده جنس العمل، ومعنى جنس العمل أن يكون ممتثلا لأمر من أوامر الله طاعة لله جل وعلا، منتهيا عن بعض نواهي الله، طاعة لله جل وعلا ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم أهل السنة اختلفوا هل الصلاة مثل غيرها؟ أم أن الصلاة أمرها يختلف، وهي المسألة المعروفة بتكفير تارك الصلاة تهاونا وكسلا، هذه اختلف فيها أهل السنة كما هو معروف، واختلافهم فيها ليس اختلاف في اشتراط العمل .
فمن قال يكفر بترك الصلاة تهاونا وكسلا يقول: العمل الذي يجب هنا هو الصلاة؛ لأنه إن ترك الصلاة فإنه لا إيمان له.
والآخر من أهل السنة الذين يقولون لا يكفر تارك الصلاة كسلا وتهاونا يقولون لابد من جنس عمل لابد من أن يأتي بالزكاة ممتثلا، بالصيام ممتثلا، بالحج ممتثلا يعني واحد منها، أن يأتي طاعة من الطاعات ممتثلا حتى يكون عنده بعض العمل أصل العمل؛ لأنه لا يسمى إيمان حتى يكون ثم عمل.
لأن حقيقة الإيمان راجعة إلى هذه الثلاثة النصوص القول والعمل والاعتقاد، فمن قال حقيقة الإيمان يخرج مها العمل فإنه ترك دلالة النصوص.
فإذن الفرق بيننا وبينهم حقيقي وليس شكليا أو صوريا.
هل هذا في الواقع مطبّق متصور أم غير متصور؟ هنا هو الذي يشكل على بعض الناس، يرى أنه لا يتصور أن يكون مؤمنا يقول كلمة التوحيد ويعتقد الاعتقاد الحق ولا يعمل خيرا قط يعني لا يأتي امتثالا لأمر الله ولا ينتهي عن محرم امتثالا لأمر الله، يقولون أن هذا غير متصور، ولما كان أنه غير متصور في الواقع عندهم صار الخلاف شكلي، كما ظنوه، لكن هذا ليس بصحيح لأننا ننظر إليها لا من جهة الواقع ننظر إليها من جهة دلالة النصوص فالنصوص دلت على أن العمل أحد أركان الإيمان، فإذا كانت دلت على ذلك فوجب جعله ركنا فمن خالف فيكون مخالفا خلافا أصليا وليس صوريا ولا شكليا خلافا جوهريا، هل يتمثل هذا في الواقع أو لا يتمثل؟ هذه المسألة الله جل وعلا هو الذي يتولى عباده فيها؛ لأنه العباد قد يفوتهم أشياء من حيث معرفة جميع الخلق وأعمال الناس وما أتوه وما تركوه، والله أعلم. اهـ
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله : (شرح حديث لا يزني الزاني..ضمن جامع المسائل ج5/ص 246 ط عالم الفوائد)
((و غلطوا غلطوا غلطا آخر غلطت فيه الجهمية أعظم ،و هو أنهم ظنوا القلب يقوم به الإيمان قياما لا يظهر على الجوارح. )) اهـ
و قال :الإيمان الأوسط ص 60 ط الرسالة
((و بهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما ،امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة،فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم لانتفاء الإيمان القلبي التام ،و بهذا يظهر خطأ جهم و من اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان القلب بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة فإن هذا ممتنع ،إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا و يحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة ..)) اهـ
قلت : مقصود الإمام رحمه الله بالإيمان التام :الإيمان الواجب لا المطلق،و هذا ظاهر من السياق،إذ ترك النطق بالشهادتين مع القدرة مشترط في صحة الإيمان-الواجب- بالإجماع،و انظر ما بعده من الكلام.
قلت أبو مصعب :و القول الذي حكاه شيخ الاسلام عن الجهم ومن اتبعه هو تماما ما يدعيه أصحابنا اليوم مستدلين –زعموا-بأحاديث الشفاعة و سيأتي نقض استدلالاتهم قريبا .
و قال أيضا :ص 60
((و منشأ الغلط في هذه المواضع من وجوه
الثالث :ظن الظان أن ما في القلب من الإيمان المقبول ،يمكن تخلف القول الظاهر و العمل الظاهر عنه
الرابع :ظن الظان أن ليس في القلب إلا التصديق و أن ليس الظاهر إلا عمل الجوارح ،و الصواب أن القلب له عمل مع التصديق و الظاهر قول ظاهر و عمل و كلاهما مستلزم للباطن..)) اهـ
وقال ص 72 :
((إذا تبين هذا و علم أن الإيمان الذي في القلب من التصديق و الحب وغير ذلك يستلزم الأمور الظاهرة من الأقوال الظاهرة و الأعمال الظاهرة ،كما أن القصد التام مع القدرة يستلزم وجود المراد،و أنه يمتنع مقام الإيمان الواجب في القلب من غير ظهور موجب ذلك و مقتضاه ،زالت الشبهة العلمية في هذه المسألة،و لم يبق إلا نزاع لفظي في أن موجب الإيمان الباطن هل هو جزء منه داخل في مسماه ...)) اهـ
و قال الإيمان الأوسط ص 74- 75 :
((و إن قلت ما هو حقيقة قول جهم و أتباعه من أنه قد يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر ،و ترك جميع الواجبات الظاهرة قيل لك:فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له و موجب له،بل إن حقيقة قولك إن الظاهر يقارن الباطن و يفارقه أخرى فليس بلازم له و لا موجب و معلول له و لكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن،و إذا عدم لم يدل عدمه على العدم و هذا حقيقة قولك و هو أيضا خطأ عقلا كما هو خطأ شرعا .)) اهـ
قلت-أبو مصعب- : فها أنت ترى الإمام ابن تيمية عد حقيقة قول جهم : دعوى إمكانية استقرار الإيمان الواجب مع ترك جيمع الواجبات الظاهرة ، و تأمل كلامه رحمه الله،في دعواهم مقارنة الظاهر للباطن و إمكانية الثاني-الباطن- مع تخلف الأول !! فهذا حقيقة قولهم -الجهمية- و قول أصحابنا!! فتنبه للموافقة من هذا الوجه .كما نضيف أيضا :إن ترك العمل الظاهر-مع و جوب ذلك و القدرة- إظهار للكفر بلا ريب على ما تقرر من تلازم الظاهر و الباطن فافهم ولا تكن من الغافلين.
و ذكر أيضا معددا غلطاتهم ص 76 - 77
''((و رابعها :أنهم جعلوا من لم يتكلم بالإيمان قط مع قدرته على ذلك،و لا أطاع الله طاعة ظاهرة مع وجوب ذلك عليه و قدرته عليه قد يكون مؤمنا بالله تام الإيمان،سعيدا في الدار الآخرة،و هذه الفضائح تختص بها الجهمية دون المرجئة من الفقهاء و غيرهم..))اهـ
و أقول:القول الذي يدندن حوله أصحابنا أخف من جهة تأثيمهم، و قولهم بنقص إيمان تارك العمل الظاهر،و لكنهم يدعون نجاته،و سعادته و لو بعد حين كحال أصحاب الكبائر!! كما يقول رائد العراقي-أحد الدعاة إلى الإرجاء الغالي- في (نصب الراية) معلقا على كلام للحافظ ابن رجب ص82:
(إذن فالذين يخرجون في آخر فوج لم يعملوا بقلوبهم و جوارحهم زائدا عن أصل الإيمان القلبي و أصل التوحيد!! )
فرجع الإيمان الواجب عنده لأصل التصديق فقط و هذا عين مذهب غلاة المرجئة الجهمية .
((و هذه الفضائح تختص بها الجهمية دون المرجئة من الفقهاء و غيرهم..))اهـ و الله المستعان
و قال ص 92 في معرض حديثه عن تارك الصلاة
((فهذا موضع ينبغي تدبره،فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب،و اعلم أن من قال من الفقهاء :إنه إذا أقر بالوجوب،و امتنع عن الفعل،لا يقتل أو يقتل مع إسلامه،فإنه دخلت عليه شبهة المرجئة و الجهمية،و التي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل.)) اهـ
((و من قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات ،سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما للإيمان أو جزءا منه فهذا نزاع لفظي ،كان مخطئا خطأ بينا ،و هذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف و الأئمة الكلام في أهلها و قالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف و الصلاة فهي أعظمها و أعمها و أولها و آخرهاو أولها و أجلها )) اهـ ص 99
(( فَمَنْ لَمْ يَشْفِهِ الْقُرْآنُ , وَلَمْ تَنْفَعْهُ السُّنَّةُ وَمَا فِيهِمَا مِنَ النُّورِ وَالْبَيَانِ وَالْهُدَى وَالضِّيَاءِ , وَتَنَطَّعَ وَتَعَمَّقَ , وَقَالَ بِرَأْيِهِ , وَقَاسَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ بِفِعْلِهِ وَهَوَاهُ دَاخَلَ اللَّهَ فِي عَمَلِهِ , وَنَازَعَهُ فِي غَيْبِهِ , وَلَمْ يَقْنَعْ بِمَا كَشَفَ لَهُ عَنْهُ , حَتَّى خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ , وَخَرَقَ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ , وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا , وَخَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا , وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ , وَوَلَّاهَ اللَّهُ مَا تَوَلَّى , وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ , وَسَاءَتْ مَصِيرًا )) أ.هـ الإبانة الكبرى للإمام بن بطة العكبري
يتبع .. .