المشكدانة
12-14-2003, 03:26 PM
موقف أهل السنة من مجالسة أهل البدع
موضوع يستحق القراءة لأحد الأخوة من منتدى أعماق أعجبني كثيرا فأحببت إتحافكم به ،،، وفق الله الجميع
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
لما كانت النفس البشرية مجبولة في أصل خلقها على الضعف، كما قال تعالى: ((وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً)) [النساء:28] أرشد الله عباده إلى ما يعينهم على حفظ دينهم، من صحبة الأخيار والصالحين ومجالستهم، فقال: ((وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) [الكهف: 28]، كما حذًّرهم في مقبل ذلك من صحبة الأشرار والمارقين عن الدين، والقعود معهم فقال: ((فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) [الأنعام:68] وذلك لسابق علم الله بما فطرت عليه النفس البشرية من سرعة التأثر سلباً أو إيجاباً بالمجتمع الذي تعيش فيه.
ولذا اشتهر في كتب السنة والاعتقاد التحذير من مجالسة أهل البدع، بصورة لا تضاهيها أي صورة أخرى من صور تحذيرهم من أنواع التعامل مع أهل البدع.
وأنا أعرض في هذا الموضوع إن شاء الله تعالى وبحسب ما يقتضيه المقام – موقف أهل السنة من مجالسة أهل البدع:
بذكر الأدلة الشرعية المقررة لترك مجالستهم ووجوب مباعدتهم، وبذكر الآثار عن سلف الأمة في ذلك، وأقوال أهل العلم والتحقيق من أهل السنة فيه أيضاً، ثم أتبعه بعد ذلك بذكر الضوابط الشرعية لهجر المبتدع بترك مجالسته. صلى الله عليه وسلم
الأدلة من الكتاب والسنة على ترك مجالسة أهل البدع
أولاً: من الكتاب: فقد قال الله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) [الأنعام:68].
عن أبي عون قال: " كان محمد (يعني ابن سيرين) يرى أن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى أن هذه الآية أنزلت فيهم ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)) (1).
وقد ذكر الله تعالى بما حذر منه هنا من مجالسة هؤلاء في سورة النساء فقال: ((وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)).
نقل البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تفسير هذه الآية: " دخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة " (2).
ثانياً: من السنة:
فقد دل على مشروعية ترك مجالسة أهل البدع، ووجوب هجرهم، عدة أحاديث، منها قصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم وهو حديث طويل رواه الشيخان عن كعب ذكر فيه قصة تخلفه عن الرسول rصلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهجر النبي صلى الله عليه وسلم له ولصاحبيه وفيه:
" ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يُكَلّمُني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسَّورْتُ جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ، فسلمت عليه، فوالله ما رد السلام، فقلت يا أبا قتادة: أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي .. " (3).
ففي قصة كعب هذه دليل على مشروعية هجر أهل البدع والمعاصي، بترك المجالسة والكلام، وقد استدل بها غير واحد من أهل العلم على جواز هجر أهل البدع حتى يتوبوا .
(أقوال السلف وأفعالهم الدالة على هجر أهل البدع)
وأما أقوال السلف وأفعالهم الدالة على هجر أهل البدع بترك المجالسة والمخالطة لهم كثيرة جداً، ولكن أذكر أمثلة لها بحسب ما يقتضيه المقام.
أولاً: ما جاء عن الصحابة في ذلك من أقوال وأفعال:
1/ ما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من ضربه لصبيغ العراقي وكتابته لأهل البصرة أن لا يجالسوه (4).
2/ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب " (5).
3/ ومن ذلك هجر أبي بكر الصديق رضي الله عنه لِمسْطَح بن أُثاثة لكلامه في حادثة الإفك، وترك النفقة عليه حتى نزلت الآية ((وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [النور:22] فترك أبو بكر هجره وأعاد عليه النفقة وقال: " بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي " (6).
4/ ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه أن قريباً لعبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه خذف فنهاه، وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف، فأعاد فقال عبد الله: " أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه، ثم تخذف لا أكلمك أبداً " (7).
والأمثلة لذلك من سيرة الصحابة كثيرة نقل العلماء بعضها كابن قتيبة رحمه الله (8) وما ذكرته هنا أمثله فقط.
ثانياً: ما جاء عن التابعين والأئمة في ذلك من أقوال وأفعال:
فمن أقوالهم المصرحة بترك مجالسة أهل البدع والنهي عنها:
1/ ما رواه الدارمي وغيره عن أيوب قال: " رآني سعيد بن جبير جلست إلى طلق بن حبيب فقال لي: ألم أرك جلست إلى طلق بن حبيب لا تجالسنه " (9) وفي بعض الروايات: " لا تجالسه فإنه مرجئ ".
2/ وعن أبي قلابة رحمه الله تعالى أنه كان يقول: " لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم " (10).
3/ وعن الحسن البصري أنه قال: " لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم " (11).
4/ ويروى عن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: " أنه دخل عليه رجلان من أهل الأهواء فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث؟ قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله عز وجل؟ قال: لا. لتقومن عني، أو لأقومنه " (12).
5/ وكتب عيسى بن يونس رحمه الله تعالى إلى بعض أصحابه يقول: " لا تجالسوا الجهمية، وبينوا للناس أمرهم كي يعرفوهم، فيحذروهم " (13) .
6/ وعن أبي ادريس الخولاني رحمه الله تعالى: " أنه رأى رجلاً يتكلم في القدر فقام إليه فوطئ بطنه، ثم قال: إن فلاناً لا يؤمن بالقدر فلا تجالسوه فخرج الرجل من دمشق إلى حمص " (14).
فدلت هذه الآثار المنقولة عن سلف الأمة من الصحابة، والتابعين وتابعيهم على الخير، على اتفاقهم على مهاجرة أهل البدع وترك مجالستهم، بحيث أصبحت هذه المسألة من مسلمات الاعتقاد في باب التعامل مع أهل البدع عند أهل العلم من أهل السنة.
ثالثاً: ما جاء عن علماء ما بعد عصر السلف المتقدمين في ذلك من أقوال:
1/ يقول الإمام عبد الله محمد بن أبي زمنين رحمه الله تعالى: " ولم يزل أهل السنة يعيبون أهل الأهواء المضلة، وينهون عن مجالستهم، ويخوفون فتنتهم " (15).
2/ ويقول ابن عبد البر: " أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه، أو يولد به على نفسه مضرة في دينه أو دنياه، فإن كان كذلك فقد رخص له مجانبته ورب صرم جميل خير من مخالطة مؤذية " (16).
3/ ويقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى: " فالمقصود بهذا أن يهجر المسلم السيئات ويهجر قرناء السوء الذين تضر صحبتهم إلا لحاجة أو مصلح راجحة " (17).
4/ ويقول الشاطبي رحمه الله تعالى في معرض ذكره لأحكام أهل البدع: " الثاني: الهجران وترك الكلام والسلام، حسبما تقدم عن جملة من السلف في هجرانهم لمن تلبس ببدعة، وما جاء عن عمر رضي الله عنه من قصة صبيغ العراقي " (18).
المفاسد المترتبة على مجالسة أهل البدع
وبعد إيراد الأدلة وأقوال السلف الدالة على مشروعية هجر المبتدع وترك مجالسته، أرى أن مما يكتمل به تقرير المسألة، وتطمئن به النفوس إلى تأصيلها في الشرع، ذكر بعض المفاسد المترتبة على مجالسة أهل البدع ومخالطتهم، والتي من أبرزها:
1/ أن في مجالستهم خطراً عظيماً على المجالس لهم، بأن يرد عليه من شبههم ما لا يستطيع دفعه، وبالتالي ينغمس في ضلالتهم، وبدعهم.
2/ أن في مجالسة أهل البدع مخالفة لأمر الله بترك مجالستهم، ومشاقة للرسول r الذي نهى عن مجالستهم، واتباعاً لغير سبيل المؤمنين الذين اتفقوا على ترك مجالسة أهل البدع والتحذير منها.
3/ أن مجالسة أهل البدع تجلب محبتهم، وترك ما أمر الله من بغضهم ومعاداتهم.
4/ أن مجالسة أهل البدع مضرة بأهل البدع أنفسهم، لأن فيها تعطيلاً للوسيلة التي شرعها الله للرجوع بالمبتدع إلى جادة السنة، وهي بمثابة العلاج له ألا وهي (وسيلة الهجر).
5/ أن مجالسة أهل البدع سبب لسوء الظن بمُجَالِسِهم – على فرض عدم تأثره بهم وموافقته لهم – وهي مسبة عند العقلاء منقصة عند الصالحين.
وعموماً فالمفاسد المترتبة على مجالسة أهل البدع وغيرهم من أهل الفساد، لا يحصيها إلا رب العباد، ولهذا نهى عنها عباده، وبعد ذكر ما تقدم فوجب على المسلم التسليم لما دلت عليه النصوص والنقول: من النهي عن مجالسة أهل البدع ولو لم تدرك الحكمة من ذلك فكيف والحكمة واضحة جلية لكل ذي عقل بصير وهي تلك المفاسد الكبيرة المترتبة على مجالستهم.
يتبع ***
موضوع يستحق القراءة لأحد الأخوة من منتدى أعماق أعجبني كثيرا فأحببت إتحافكم به ،،، وفق الله الجميع
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
لما كانت النفس البشرية مجبولة في أصل خلقها على الضعف، كما قال تعالى: ((وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً)) [النساء:28] أرشد الله عباده إلى ما يعينهم على حفظ دينهم، من صحبة الأخيار والصالحين ومجالستهم، فقال: ((وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) [الكهف: 28]، كما حذًّرهم في مقبل ذلك من صحبة الأشرار والمارقين عن الدين، والقعود معهم فقال: ((فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) [الأنعام:68] وذلك لسابق علم الله بما فطرت عليه النفس البشرية من سرعة التأثر سلباً أو إيجاباً بالمجتمع الذي تعيش فيه.
ولذا اشتهر في كتب السنة والاعتقاد التحذير من مجالسة أهل البدع، بصورة لا تضاهيها أي صورة أخرى من صور تحذيرهم من أنواع التعامل مع أهل البدع.
وأنا أعرض في هذا الموضوع إن شاء الله تعالى وبحسب ما يقتضيه المقام – موقف أهل السنة من مجالسة أهل البدع:
بذكر الأدلة الشرعية المقررة لترك مجالستهم ووجوب مباعدتهم، وبذكر الآثار عن سلف الأمة في ذلك، وأقوال أهل العلم والتحقيق من أهل السنة فيه أيضاً، ثم أتبعه بعد ذلك بذكر الضوابط الشرعية لهجر المبتدع بترك مجالسته. صلى الله عليه وسلم
الأدلة من الكتاب والسنة على ترك مجالسة أهل البدع
أولاً: من الكتاب: فقد قال الله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) [الأنعام:68].
عن أبي عون قال: " كان محمد (يعني ابن سيرين) يرى أن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى أن هذه الآية أنزلت فيهم ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)) (1).
وقد ذكر الله تعالى بما حذر منه هنا من مجالسة هؤلاء في سورة النساء فقال: ((وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)).
نقل البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تفسير هذه الآية: " دخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة " (2).
ثانياً: من السنة:
فقد دل على مشروعية ترك مجالسة أهل البدع، ووجوب هجرهم، عدة أحاديث، منها قصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم وهو حديث طويل رواه الشيخان عن كعب ذكر فيه قصة تخلفه عن الرسول rصلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهجر النبي صلى الله عليه وسلم له ولصاحبيه وفيه:
" ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يُكَلّمُني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسَّورْتُ جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ، فسلمت عليه، فوالله ما رد السلام، فقلت يا أبا قتادة: أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي .. " (3).
ففي قصة كعب هذه دليل على مشروعية هجر أهل البدع والمعاصي، بترك المجالسة والكلام، وقد استدل بها غير واحد من أهل العلم على جواز هجر أهل البدع حتى يتوبوا .
(أقوال السلف وأفعالهم الدالة على هجر أهل البدع)
وأما أقوال السلف وأفعالهم الدالة على هجر أهل البدع بترك المجالسة والمخالطة لهم كثيرة جداً، ولكن أذكر أمثلة لها بحسب ما يقتضيه المقام.
أولاً: ما جاء عن الصحابة في ذلك من أقوال وأفعال:
1/ ما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من ضربه لصبيغ العراقي وكتابته لأهل البصرة أن لا يجالسوه (4).
2/ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب " (5).
3/ ومن ذلك هجر أبي بكر الصديق رضي الله عنه لِمسْطَح بن أُثاثة لكلامه في حادثة الإفك، وترك النفقة عليه حتى نزلت الآية ((وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [النور:22] فترك أبو بكر هجره وأعاد عليه النفقة وقال: " بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي " (6).
4/ ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه أن قريباً لعبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه خذف فنهاه، وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف، فأعاد فقال عبد الله: " أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه، ثم تخذف لا أكلمك أبداً " (7).
والأمثلة لذلك من سيرة الصحابة كثيرة نقل العلماء بعضها كابن قتيبة رحمه الله (8) وما ذكرته هنا أمثله فقط.
ثانياً: ما جاء عن التابعين والأئمة في ذلك من أقوال وأفعال:
فمن أقوالهم المصرحة بترك مجالسة أهل البدع والنهي عنها:
1/ ما رواه الدارمي وغيره عن أيوب قال: " رآني سعيد بن جبير جلست إلى طلق بن حبيب فقال لي: ألم أرك جلست إلى طلق بن حبيب لا تجالسنه " (9) وفي بعض الروايات: " لا تجالسه فإنه مرجئ ".
2/ وعن أبي قلابة رحمه الله تعالى أنه كان يقول: " لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم " (10).
3/ وعن الحسن البصري أنه قال: " لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم " (11).
4/ ويروى عن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: " أنه دخل عليه رجلان من أهل الأهواء فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث؟ قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله عز وجل؟ قال: لا. لتقومن عني، أو لأقومنه " (12).
5/ وكتب عيسى بن يونس رحمه الله تعالى إلى بعض أصحابه يقول: " لا تجالسوا الجهمية، وبينوا للناس أمرهم كي يعرفوهم، فيحذروهم " (13) .
6/ وعن أبي ادريس الخولاني رحمه الله تعالى: " أنه رأى رجلاً يتكلم في القدر فقام إليه فوطئ بطنه، ثم قال: إن فلاناً لا يؤمن بالقدر فلا تجالسوه فخرج الرجل من دمشق إلى حمص " (14).
فدلت هذه الآثار المنقولة عن سلف الأمة من الصحابة، والتابعين وتابعيهم على الخير، على اتفاقهم على مهاجرة أهل البدع وترك مجالستهم، بحيث أصبحت هذه المسألة من مسلمات الاعتقاد في باب التعامل مع أهل البدع عند أهل العلم من أهل السنة.
ثالثاً: ما جاء عن علماء ما بعد عصر السلف المتقدمين في ذلك من أقوال:
1/ يقول الإمام عبد الله محمد بن أبي زمنين رحمه الله تعالى: " ولم يزل أهل السنة يعيبون أهل الأهواء المضلة، وينهون عن مجالستهم، ويخوفون فتنتهم " (15).
2/ ويقول ابن عبد البر: " أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه، أو يولد به على نفسه مضرة في دينه أو دنياه، فإن كان كذلك فقد رخص له مجانبته ورب صرم جميل خير من مخالطة مؤذية " (16).
3/ ويقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى: " فالمقصود بهذا أن يهجر المسلم السيئات ويهجر قرناء السوء الذين تضر صحبتهم إلا لحاجة أو مصلح راجحة " (17).
4/ ويقول الشاطبي رحمه الله تعالى في معرض ذكره لأحكام أهل البدع: " الثاني: الهجران وترك الكلام والسلام، حسبما تقدم عن جملة من السلف في هجرانهم لمن تلبس ببدعة، وما جاء عن عمر رضي الله عنه من قصة صبيغ العراقي " (18).
المفاسد المترتبة على مجالسة أهل البدع
وبعد إيراد الأدلة وأقوال السلف الدالة على مشروعية هجر المبتدع وترك مجالسته، أرى أن مما يكتمل به تقرير المسألة، وتطمئن به النفوس إلى تأصيلها في الشرع، ذكر بعض المفاسد المترتبة على مجالسة أهل البدع ومخالطتهم، والتي من أبرزها:
1/ أن في مجالستهم خطراً عظيماً على المجالس لهم، بأن يرد عليه من شبههم ما لا يستطيع دفعه، وبالتالي ينغمس في ضلالتهم، وبدعهم.
2/ أن في مجالسة أهل البدع مخالفة لأمر الله بترك مجالستهم، ومشاقة للرسول r الذي نهى عن مجالستهم، واتباعاً لغير سبيل المؤمنين الذين اتفقوا على ترك مجالسة أهل البدع والتحذير منها.
3/ أن مجالسة أهل البدع تجلب محبتهم، وترك ما أمر الله من بغضهم ومعاداتهم.
4/ أن مجالسة أهل البدع مضرة بأهل البدع أنفسهم، لأن فيها تعطيلاً للوسيلة التي شرعها الله للرجوع بالمبتدع إلى جادة السنة، وهي بمثابة العلاج له ألا وهي (وسيلة الهجر).
5/ أن مجالسة أهل البدع سبب لسوء الظن بمُجَالِسِهم – على فرض عدم تأثره بهم وموافقته لهم – وهي مسبة عند العقلاء منقصة عند الصالحين.
وعموماً فالمفاسد المترتبة على مجالسة أهل البدع وغيرهم من أهل الفساد، لا يحصيها إلا رب العباد، ولهذا نهى عنها عباده، وبعد ذكر ما تقدم فوجب على المسلم التسليم لما دلت عليه النصوص والنقول: من النهي عن مجالسة أهل البدع ولو لم تدرك الحكمة من ذلك فكيف والحكمة واضحة جلية لكل ذي عقل بصير وهي تلك المفاسد الكبيرة المترتبة على مجالستهم.
يتبع ***